خيوط الوهم / نص مسرحي / بقلم الكاتب حكيم الوائلي
خيوط الوهم
أن أكون حطباً مشتعلاً، خيرٌ لي من أن أكون دمية خشبية باردة…….
الشخصيات
الدمية : رجل بهيأة دمية خشبية معلقة بخيوط الى سقف المسرح
المنظر
المسرح خال ومظلم إلا من بقعة ضوء على الدمية التي تقف مترنحة في الوسط ..
الدمية : ( يخبط بقدمه اليمنى الى اليمين ثم يخبط باليسرى الى اليسار.. يلوح بذراعيه مداً وثنياً وارتعاشاً .. يحرك رأسه بجميع الاتجاهات.. يضحك ويتكلم بمرافقة الموسيقى) لا..لا.. نحن.. لم نبدأ بعد أيها السادة.. إنه(يشير الى فوق ويغمز بعينه)أعني سيدي، يفعل ذلك دائماً عند بداية كل عرض، ليفحص دميته.. إنه لأمر محرج بالنسبة لي أن يجري اختباراته أمامكم كل مرة.. لكم تمنيت أن يفعل ذلك قبل أن تفتح الستارة.. لكنه يصر على أن يجعلني أضحوكة.. والحق أنه صنعني لأكون كذلك بالفعل.. لالوم عليه ..فإن إضحاككم هو الهدف في نهاية المطاف ..أما أنا الدمية فلأذهب الى الجحيم..(يضحك بمرارة).. أتعلمون؟ إنني أفضل أن أذهب الى الجحيم فعلا ..فأن أكون حطباً مشتعلاً.. خير لي من أن أكون دمية
خشبية باردة.. ما علينا.. فأنتم لا تشعرون بوجعي، ها أنا، أيتها السيدات.. والسادة.. أقف أمامكم مجدداً بشحمي ولحمي.. أعني بأعوادي وخيوطي، لأقدم لكم عرضاً آمل أن ينال رضاكم وإن كنت لا أعرف عنه شيئاً بعد فالأمر له وحده (يشير الى فوق) وكل ما أقوله الان، والكلام في سركم، هو خارج النص، ولسوف يغضبه ذلك لو شم خبراً.. فأنا منذ أن أهبطت على هذا المسرح اللعين وأنا أتلقى التحذير تلو التحذير من مغبة الإتيان بأدنى حركة أو النطق بأية كلمة خارج النص الذي أعده السيد سلفاً.. قيل لي مراراً وتكراراً إياك أن تفعل وإلا تقطعت بك الخيوط وتداعيت مثل كومة حطب يابس مصيرها النار.. حتى بلغت السبعين ،هذا إن كان بوسعي أن أعد تلك اللحظة المشؤومة التي أتم فيها نجارتي، يوم ميلاد، كما يفعل الاخرون، عموما في هذا السن المتقدم بت أشعر بعمق أنني كبرت على الوعظ والإرشاد، وسئمت إسلوب الترهيب والترغيب والنصائح الجوفاء.. ولم أعد أجد بأساً في أن أجاهر بذلك إذ ليس عندي ما أخسره ..فماذا بوسعهم أن يفعلوا بي أكثر من كوني مجرد دمية ؟ ها ؟ لاشيئ! لذلك قررت.. أنا الدمية المشدودة لأصابع سيدها.. أن أتمرد. ولتتقطع هذه
الخيوط اللعينة ولتذهب معها حياتي غير مأسوفٍ عليها ..(يضحك وهو يشير الى أعلى) أتعلمون ؟ ربما أخذته غفوة وإلا كيف تسنى لي كل هذا الهذيان دون أن يشدني؟ ها؟ ألا تلاحظون أنني تماديت كثيراً وأن أفكاري تتداعى خارج النص لأول مرة دون قيود، هل نام السيد فعلا؟ أم.. يا الهي! (يهمس بصوت خائفٍ عميق) مات؟ها ؟ مات؟ لا!لا! لاشك أنه قد نام، نعم هو نائم وما المغامرة التي أخوضها الان إلا حلم .. نعم ، حلم تسرب إليَّ من بين أصابعه المسترخية، ولعله سيصحو بأية لحظة ويشدني بعنف لنعود الى سابق عهدنا.. طبعاً فما أنا في النهاية إلا دمية لا تهش ولا تنش.. ومع ذلك، أتصدقون أيها السادة أنني حين أهبطت قبل قليل.. وفيما كنت معلقاً بين الارض والسماء، حانت مني التفاتة قصيرة الى الخلف.. ورأيت لأول مرة ، نعم! صدقوا أو لاتصدقوا، لكنها الحقيقة، بهاتين الخرزتين الزجاجيتين المغروزتين بمحجري رأسي الخشبي التافه هذا، رأيت ؛ رأيتُ قدمين هائلين، واحد، هناك الى اليمين.. والاخر هناك الى اليسار.. وحين صعدت ببصري معهما الى فوق، الساقين..الركبتين.. ياللهول إنه يقف بشموخ هناك خلف الكواليس مهيمناً على
خشبة المسرح التي بدت تحته مجرد لوح صغير، كان منحنياً هكذا (يمثل وقفته وانحناءته وذراعيه واصابعه )عملاقاً مسناً أشيب الشعر تماما ماداً ذراعيه الى الامام فارداً أصابعه العشرة المشدودة بأطراف الخيوط التي تمدني بالحياة.. وسمعته يهمهم بحروف مبهمة، منهمكاً بالمهمة التي.. أتساءل ماذا عساه أن يفعل لولاها. شعرت برهبة وخوف شديدين، وأشحت بوجهي عنه سريعاً خشية أن يلمح أنني رأيته، ولكن مهلاً أيها السادة أين هو الان ؟ أين ذاك الكيان الهائل الذي ملأني رهبة..؟ فها أنا أهذي بلا انقطاع دون أن يبدي حركة واحدة ( يشد الخيوط كأنه يريد إيقاظه دون جدوى، ثم يضحك) أرأيتم..؟ لا شيئ.. وأرجو أن ينبهني أحدكم إن كنت مخطأً . هل تسمعونني كما أسمعني..؟ هل يعقل أن يصدر كل هذا الكلام من حنجرة زائفة وقرقعة حنك خشبي بمفاصل معدنية صدئة؟ هل يعقل أيتها السيدات والسادة، أن يحدث كل هذا الهذيان أثناء غفوة عميقة داهمت سيدي ؟ ها ؟ اسعفوني أرجوكم.. فقد لا تصدقون لو قلت لكم أنني أشعر بصداع ودوار وغثيان، نعم إذ ستقولون كيف تسنى لرأس خشبي أن يحظى بكل هذه الاوجاع الثمينة ؟ ولا ألومكم.. فأنا
نفسي غير مصدق لما يحدث، ولكن مهلا! لنعيد ترتيب الامور مجدداً.. أتذكرون حين قلت لكم أنني طالما كنت أتلقى التحذيرات من مغبة الخروج عن النص ؟ ها ؟ حسنا أفترض أنكم تذكرون ذلك .. ولكن ألا تلاحظون معي أن في الأمر تناقض عجيب ..اذ لو كنت مجرد دمية لا حياة لها بلا هذه الخيوط فلمَ التحذير إذن؟ ولمَ كل هذا الترهيب والترغيب؟ فأنا في النهاية لاحول ولا قوة إلا بتلك الخيوط ؟ صح ؟ (يضحك) أليس هناك من يعرف هذه الحقيقة البسيطة ؟ أكانوا يخدعونني ؟ أكانوا يعرفون أنني لست مجرد دمية كما روجوا لذلك؟ وأن بوسعي أن أخرج عن النص متى شئت؟ طيب ! هل يحتمل مثلاً ..أقول مثلاً.. مثلاً.. هل يحتمل أن يكون ثمة سيدٌ آخر غير سيدي هذا؟( يشير الى فوق) وهذا الاخر هو من يجعلني أتمرد.. يا للفوضى اذن .. تصوروا وجود مخرجين برؤيتين مختلفتين.. (يضحك)..لاشك أن أحدهما سيفسد على الاخر عرضه المسرحي.. لا،لا! أنا من سيضع حداً لهذه الفوضى.. فأياً كان عدد السادة المهيمنين ومهما بلغوا من القوة فإنني في النهاية خارج عن النص.. ولن أعود مجدداً للإنقياد لهذه الخيوط اللعينة ..لا(يصرخ يسحب الخيوط بعنف
يقع على الارض.. يصدر عن وقوعه صوت حطام خشب يتهاوى وتتقطع الخيوط مدلات من السقف.. تهدأ الموسيقى ويسود الصمت لثوان قبل أن تعاود الموسيقى نموها مع وقوفه مجدداً وهو يسند أعظاءه بعضها ببعض وينهض ببطئ .. يترنح.. يتفقد رأسه.. يهتف بفرح) هل أنا أحلم؟ ولكن لا! فهذه الخيوط اللعينة لاتمد أحداً بالاحلام ..فإنني أرى حقاً..أرى كما لم أر من قبل..(يشير الى الجمهور) أرى خيوطاُ تتدلى من السقف مثل شباك العناكب.. وأسمع قرقعة خشب تتعالى.. لاشك أنه أوان تمرد الدمى (يضحك ضحكة مجلجلة وهو يلوح بقبضتيه في استعراضٍ للقوة) حتى الدمى تستطيع أن تقول لا إذن! حتى الدمى تستطيع أن تقول لا لا..ها ها ها
إظلام