أدب وفن

وزنكِ الصافي…/ بقلم د. عماد فغالي

وزنكِ الصافي

في مطلع ستّينات القرن الماضي، المدينةُ اللبنانيّة، وإن ساحليّة وكثيفةُ السكّان، تُشبه القريةَ في غالبها… أهلُها الأصليّون مُطبِقون في مفاهيمهم المجتمعيّة وانقيادهم لموروثاتها.
هناكَ في عمشيت، الفتاةُ التفوّقت في دروسها، بلغت الجامعة وتخرّجتْ. هذا ليس مألوفًا في بيئتنا التعوّدتْ تعليم الصبيّ ومتابعة دراسته دون البنت.
الفتاةُ إلهام، ابنة رفيق الكلاّب، النجّار العتيد، الملاّك في جبيل، ربّ عائلةٍ كبيرة، أراد لأولاده التعلّمَ ما شاءوا، فتيانًا وفتيات. وكانت في بيتهم المكتبةُ قبلَ الطعام. إلهام، تحصل على منحةٍ خاصّة لإكمال تخصّصها، والتسجّل لأجل الدكتوراه في جامعة السوربونّ الباريسيّة.
طبعًا، الحدثُ مدعاةُ فخرٍ وفرح كبيرين، للعائلة أوّلاً، وللمعارف أيضًا وأبناء المنطقة. لكنّ الفرحَ هذا يشوبه تساؤلٌ كبير: كيف تسافر الفتاةُ بمفردها إلى فرنسا، وتعيش وحدَها؟ ماذا لو تعرّضتْ لمخاطرَ؟ من يحميها؟ كيف تدافع عن نفسها؟….
المقرّبون طرحوا السؤال على والدها. كانت إجابتُه في تلك البساطة الواثقة: لتذهب. هذا اختبارٌ لحسنِ تربيتي!
وجاء يوم السفر. اجتمع أهلُ عمشيت في باصٍ كبير يرافقون ابنةَ بلدتهم إلى المطار. جاءوا يودّعونها ويمطرونها نصائحَهم “الوقائيّة” والمُحبّة: “انتبهي عَ حالك… ما تخلّي حدا يقرّب عليكِ…” وربّما عبّروا أيضًا عن تخوّفاتهم: ” يا دلّي، البنت وحدا رايحة ع فرنسا… الله يستر شو ناطرا…”
وكانت إلهام في السيّارة يرافقها والدها. فمرّ في محاذاتها شاحنة كبيرة، سأل الوالد ابنته: ما المكتوب على صندوق الشاحنة؟ أجابت: الوزن الإجمالي كذا، الوزن الصافي كذا.. قال لها أبوها على الفور: ” ما ترينه يا ابنتي من اهتمامٍ لكِ هو وزنُكِ الإجماليّ. محبّة هؤلاء الناس هي لأجل أهلكِ وعلاقتهم بهم. إذهبي الآن واصنعي وزنكِ الصافي”.
هناكَ، حيثُ وحدكِ، لا أهل ولا مقرّبين، تؤسّسين لكِ، تحصّلين شهاداتكِ وتبنين نفسَكِ…
هذا ما أدركه والدها وما أراده… هكذا أرسى أسسًا إنسانيّةً حرّة واستقلاليّة في شخصيّة ابنته الهيَ اليوم الدكتورة إلهام كلاّب البساط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى