امتدّت يد الحرف لتلامس نبض كلمة أشعلها إحساسه المبتسم، بين ثنايا روحه سكن لحن بديع و نغم، عزفه الورق و شداه القلم، موسيقى تترنّمه بين الفرح و الألم، تقول فيه المعاني أجاد الوصف و على نسج العبر احتكم، تخاطبه الحكاية و من جنانه تحيك أنفاسا في دواخلنا ترتسم، نطق مرقمه مطوّقا صرخات الزمن و بندائه ازدحم، راسلنا بوحه و لصمتنا داهم و اقتحم، كتبتنا دهشته و صفيرها بالنفس التحم، أطلّ من شهقته نشيد و ببلاغته جزم، هو الكاتب و الروائي اللبناني “محمد اقبال حرب”
مرحبا بك سيدي
الحرف صدى الوجدان سيدتي، مداده تراتيل الروح في فضاء وجودنا. من بيروت عبر المسافات ترف أجنحة الشوق إلى تونس الساحرة بأرضها وشعبها. ألف شكر وتقدير على هذه الدعوة الكريمة.
س “ولادة الكتاب من رحم المعاناة فرحة لا توصف”، كيف يتوازن الإحساس بين المعاناة و الفرح؟
ج لا أعتقد أن للتوازن بين الفرح و المعاناة وجود في رحم الإبداع كي لا تصاب المشاعر بخمول اللحظة. فالكاتب يعكس تأجج مشاعره في بركان الذات لحظة تفجرها ألمًا أو فرحا لتنعم مشكاة إبداعه على صفحة وجوده.
س كيف يضع الكاتب “محمد إقبال حرب”، ملامحه في جيب الحرف، ليختلس من نبضه، كلما اختنقت
شرايينه”؟
ج في ظل الوجود الإنساني المتلاطم أجد الصراع متكاثفًا في أرجاء وجودي، يسلبني نبضًا ويهبني اكسيرًا فلا أدري في أي بُعد رُميت من حياة أو موت… أنتهز في تلك اللحظة بقاياة حياة لأقطف من ثمار البقاء المتقطع حروفا تراقص نبض وجودي فأدمغها ببصمة تذكُرني بعد فناء.
س كيف أنت أيها الحرف خارج حدود الروح؟
ج الروح سياج بشري يحدّد مسيرة وجودنا، بل سجن اختاره الإنسان ليبرر نبض قلبه. لكنني متمرّد، أقفز بين العوالم خارج السياج المرسوم لأطلق العنان لحرف مجنون خلف جدار سجن البقاء إلى هناك، حيث ينبض الحرف عوضًا عن القلب.
س كيف نثقّف صمتنا من خلال حرف يعانق قلم الكاتب “محمد اقبال حرب”؟
ج لا أدري يا سيدتي إن كان في جعبتي ما يثري صمت المريدين. لكنني، أعكس تراتيل وجودي أنغام في سيمونية البقاء الأزلي، آملًا أن تجد طريقها إلى جدران المعرفة فترتد صدى بين هضاب ووديان يسكنها نسّاك الكوكب الأزرق.
ماذا يحكي البوح، عن قبعته المفقودة في أنفاس الصمت؟
ج سؤال جميل… كبقية الأسئلة. بعدما تخلص البوح من كاتم الأسرار، تجلّى الصمت خائفًا من ثرثرة الوجود فبش له البوح بفيض من الأسرار جرفته إلى حيث ابتلع النسيان قبعة البوح. فغشي الصدى أرجاء الوجدان حتى أصبح الوجود صفحة بوح للعارفين.
س يألفني وجع الكلمات و تغيب داخلي غربة الوجود، هل تجالس هذا المعتقد؟
ج هذا حالي، فالغربة وطن لأبجدية الألم.
س “إنها العرّافة ذات المِنقارين القاني والأسوَد التي جالت شواطئَ البَشَريّة واستقرّت في حنايا ذاكرتها”،
ماذا نهلت منك “العرّافة” لتفرغه في دواخلنا؟
ج العرّافة، تتناسخ عبر الوجود، تدخل بيوتنا، تنسلّ إلى دواخلنا، تفرز سمًا زعافًا باسم “القوى المتسترة” خلف حجاب. أخذت مني زبدة آلامي، سجّل شريطي الوراثي الذي نخرته العرّافة الأولى بحقدها، وأسرار كهانتها فدّمرت إنسانية أجدادي في كل بقعة من أرض بشريتنا لتنعم مخالب الأسياد بقرابين مستدامة. بين دفّتي العرّافة… أسرار لا تنتهي بيني وبينكم.
س لكل صديق رحيق ولكل كتاب بريق”، سكبني الألم في نبض الحرف، ليصير المرافق و الرفيق، فإلى أين؟
ج إلى هناك، حيث البقاء والفناء سيّان، حيث البهجة والألم صديقان، حيث تصبح الحروف كائنات تقرأ بني البشر، يترافقان إلى حيث لا مستقر.
س متى يغمض الحرف عينيه، و يترجّل السطر عن كلماته؟
ج عندما يسكت القلب و تتخثر الدماء يغمض الحرف عينيه، لكنه لا يترجل بل يمتطى فكرًا آخر ليتابع رحلة الخلود… ففي البدء كانت الكلمة.
س عندما يختبئ جسد الكلمة في جلباب القلب، إلى كم من سفر يأخذنا معه قلم الكاتب “محمد اقبال حرب”؟
ج ذاك الملاذ بين شغاف القلب وحجراته، يحملني إلى حيث يجب أن أكون في لحظة خارج عدّاد الزمن. حيث المشاعر كلمات بلا حواجز، تتمايل حزنًا وفرحًا إلى أن تجرفني الطرقات إلى سكون مطلق. أراني و إياكم في ذات واحدة تخط بلا حروف أسفار وجودنا على براعم الخلود، على شفاه لا تتكلم ومدى بصيرة بلا بصر … هناك تصبح الوجهات واحدة، تبهرنا بوميض البعد الآخر فنندمج في صفحة البقاء رغم هشاشة وجودنا… ربما هي لحظات تبرق في الوجدان تسطر آمادًا في كينونة العارفين.
س “مسافر بين حِقَب الزمان أجمع ألحان الغابرين بين حبات المطر لأرتل صلاة البقاء عند بوابة الرحيل”، متى تكون أنت بين خطوات الجنان تلملم شتات السابقين بين ثنايا القدر لتصافح نشيد العطاء وتكسر نافذة المستحيل؟
ج الصراع بين الوجود و اللاوجود رحلة مستمرة منذ بدء الخليقة، إنها كسكرات الموت على مدى إنسانيتنا. لذلك أراني أنتهز فرصة الجنون لأنقب بين الأيام والسنين عن وفاء مفقود وحب منشود وألم مقصود، أحملهم تعاويذ قدر أنفذ منه إلى واحة العطاء عبر سراب المستحيل، حيث تستقبلني تراتيل الغابرين بديمة خلود تعيد خلقي من جديد.
س ركل ذاك الجدار تجاعيده، كيف تقبض عليها أنفاسك المرصّعة بزفراته؟
ج عندما يحتدم الصراع بين الوجود والضياع يصبح الركام غبارا، ويستحيل النهار ليل دامس تسقط معه قوانين الفيزياء فتصبح الأنفاس ركيزة البقاء. أقبضه بخلود إنسانيتي المتجذرة في كل كينونة إنسانية وأنهض من فناء كالعنقاء أسطورة خلود في جسد ما يدرك من أنا.
س ” من أنا؟ سؤال يحيرني، أنا يا سيدتي مجرد إنسان يعشق وطنه وإنسانيته وكل من شاركني فيهما “، إلى كم من إحساس مع محبة الوطن؟
ج كل الأحاسيس تتجذر في هويتي وانتمائي، من عمق الأرض وجذور الحضارة إلى عنان السماء والأحلام، تسكب في هوائي أنفاسها، في مجرى الدم نبض فؤادي… كيف لي أن أحصي كل هذا؟
س من أخطأ في حق الحلم، ليبقى عالقا ما بين الوجود و العدم؟
ج لا يهم من أخطأ سيدتي، لأن ذاك الخطأ قداسة. إذ، لو تحقق الحلم لأنهارت عوالم الشعراء والكتاب والعاشقين.
س هل يترشّف الزمن من كأس الحلم؟
ج لو لم يكن كذلك لما استمر وجوده، أراه حالمًا بنهاية متواليات الأيام والثواني ليستريح من العد عند قارعة المجرّات.
س يحترق الحلم، ليدفأ المساء، وينتعل الليل رماده، و يمضي، إلى متى؟
ج طالما أنه يجد ملاذًا في كينونتنا لن يغير سيرته في الفناء احتراقًا والعود من جذوة في كينونة بشر.
س عندما نتصفّح الفراغ، هل يمكن لبعض من الفناء أن يسقط صرخته؟
ج أرى الفناء دائم الوجود، يسترق اللحظة ليشعر بالنشوة في اقتناص حياة أو جماد. لذلك، من يتصفح الفراغ بعين ثاقبة ورؤيا حكيمة يبعث في الفناء إحباطا.
س كأني نسيت أقدامي على ظلّ شجرة، ماتزال تنظر إلى هناك، ما شمائل الهناك؟
هناك، ما شمائل الهناك؟
ج هذه قصيدة كتبتها عن هناك:
هناكَ
تَرَكتُ تَجَاعِيدَ الآمي
عِنْدَ مَدَافِنِ اَلْأَحْلَامِ
لِأَهْرُب عَارِيًا إِلَى هُنَاكَ
حَيْثُ اَلْمَطَارِيدُ شَتَاتٌ
لمْ أَكُنْ هُنَاكَ قط… رَغْمَ اَلْإِشَاعَاتِ
رَغْمَ اَلضَّجِيجِ وَمَوْتِ اَلْبِدَايَاتِ
فَالزَّمَانُ مَوْتٌ وَمَتَاهَاتٌ
بُحَّةِ اَلنَّايِ غُرْبَةَ اَلْمَكَانِ
وَأَنْفَاسِ اَلْبَشَرِ يَسْرِقُهَا اَلزَّمَكَانَ
يُجِيدُ لُعْبَةَ اَلْخَوْفِ
أَدْمَنَ إِنْزِيمَ اَلرُّهَابِ
هَكَذَا قَالَ حَكِيمٌ مِنْ هُنَاكَ
يَقْرَأُ اَلْخُرَافَاتِ مِنْ سِجِلِّ اَلْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
مَعَ جَوْقَةِ اَلْعَاشِقَاتِ اَلْخَائِبَاتِ
دَمَغَنِي غُرَابٌ بِمِنْقَارٍ طِيرَتهُ
فَتلقَفَنِي اَلثَّوْرُ اَلْكَبِيرُ
غَرزَ قَرْنيهِ فِي جَسَدِي
قَبْلَ أَنْ يُعِيدُنِي إِلَى هُنَاكَ
لِأَرْكَعَ مُبَايِعًا . . . تَأْشِيرَةَ رِضَاهُ
سرتُ إِلَيْهِ عَاريًا كَمَا نَذَرَتنِي أُمِّي
يَوم أَبْصَرتُ هُنَاكَ
قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ مَا هُنَاكَ
اَلْجَمِيعُ يُنَادِينِي
حَائِرًا تَائِهًا … أَبْحَثُ عَنْ مَصِير
لَا أَعْرِفُ إِلَّا اَلثَّوْرَ اَلْكَبِيرَ
مُتَجَلِّيًا هُنَاكَ
زُلْزِلَتْ اَلْأَرْضُ فَسَمِعْتُ تَرَاتِيلَهَا
وَصَلَتْنِي إِحْدَاثِيَّاتُ مَرْقَدَيْ
فَتَجَلَّيَتُ هُنَاكَ
بُحَّةَ اَلنَّايِ تَزُفُّنِي
يَقْرَأُ غُرَابٌ خَبَرَ وُصُولِي
فَتُقِيمُ دِيدَانُ ال “هُنَاكَ” أَفْرَاحَهَا
وَلِيمَةُ جَسَدِي تُغْرِي اَلْمُتْخَمِينَ
يُبَسْمِلُونَ اِبْتِهَاجًا لِنَحْرِي
يَشْحَذُ قَرْنَيْهِ قُبَيْلَ اَلْفَنَاءِ
لِيفَتَضَّ بَكَارَةَ أَنْفَاسِي
يُوقِفُهُ قَاضٍ يَعْرِفُ اَلْأَسْمَاءَ
تَأْشِيرَتُهُ نَافِقَةٌ . . . أَنْفَاسُهُ وَبَاءً
أَعِيدُوهُ إِلَى هُنَاكَ . . . قَرَّرَ اَلْقَضَاءُ
قَلَّتْ أَلَيْسَ هُنَا هُنَاكَ ؟
غَشِيَ اَلسُّكُونُ مَنْ هُنَاكَ
وَطُردتُ مَنْ هُنَاكَ إِلَى هُنَاكَ
س تحرّرني الأماكن التي لا تسقط أنفاسي من على جبينها، أين تأخذك هذه الأماكن؟
ج العالم شاسع حد الإعجاز، تتزاحم فيه الأماكن كتزاحم الأفكار في بحر المعرفة. تشدني هذه خلف المجرات وتأخذني أخرى إلى باب مجاور وكأنني على أرجوحة جمال أقفز من جمال إلى آخر، جبال شموخ مجنون وغابات شوق حالم، أنتشي من زهرة وأصرخ من مظلمة، تقبلني أزهار هذا المكان وتلسعني أفاعي الطرف الآخر بينما أغرق في نهر بشريتي… أغرق ألف مرة في اللحظة وأحيا مثلها. وما زلت أعشق الهذيان بين الأماكن، حاضرها وغائبها، ركامها وزهوها ما دامت عيون تلك الحبيبة ترافقني.
س عندما تصبح الذاكرة مكتظّة بالهذيان، كيف لتلك الصورة أن تغازل صرخات الزمكان؟
ج الدفء يراقص القيثارة في عقل فقد أوتاره، يضحك تارة ويبكي أخرى في حضن الفقد واللوعة، يراقص غانية القدر على ركح الذكرى والحلم… تسقط دمعة، تسرقها الغانية أصرخ لفقدها، ترتشفها بلذة النصر. أضمها إليّ ضمة بركان… فيصرخ الزمان.