“بَرْقَعد” لـ محمّد إقبال حرب دعوة للثورة على الواقع الاجتماعي والتحرُّر[1]
“بَرْقَعد” لـ محمّد إقبال حرب دعوة للثورة على الواقع الاجتماعي والتحرُّر[1]
مارلين سعاده*
17/1/2024
“بَرْقَعد” اشتقاقٌ جعله محمد إقبال حرب عنوانًا لمجموعة الخواطر والتأمُّلات التي يتضمّنها كتابه الصادر حديثًا ضمن منشورات “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي”، ط1 2024.وقد ابتكر هذا العنوان بضمّ كلمتَي “بَرْق ورَعْد”، ليتوّجَ به كتابه الذي اختتمه بخاطرة تحمل الرقم 163، وتلخّص الرسالة التي أراد توجيهها إلى القارئ؛ كما صدّره بتقديمٍ لرئيس الاتّحاد الفلسفسي العربي د. مصطفى الحلوة الذي تتّسم كتاباته بالرصانة والوعي، وتزخر بالفلسفة والتحليل المنطقي، يطعّمهما بحسّه الراقي المشبَع من إنسانيّته وجمال خُلقه. لقد علّل الحلوة في مقدّمته أسباب هذا الابتكار للعنوان، بقوله: “فمن سمات البرق أن يملأ الفضاء نورًا ويكشح الظلام، ومن سمات الرعد، الزمجرة بصوت الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، ورفع الصوت المدوّي التماسًا للتحرّر من مختلف أنواع العبوديّات…” إذًا، هي دعوة للثورة والتحرُّر يُطلقها حرب مع إطلاق هذا الكتاب..
تجعلنا مقدّمة الحلوة نحلّق في جِواء النصّ الشاسعة، فهو يوسّع نطاقه بما يضيفه في مقاربته من استشهادات تتجاوز مروحتها عالمنا العربي، إذ يتناول أقوالًا لكبار الفلاسفة والأدباء الغربيّين. يأتيك بالمثال ونظيره مدعّمًا تأمّلات حرب التي يصف بعضها بالصوفيّ، فتجد عمالقة الفكر والفلسفة، القدماء والمعاصرين، وقد نهضوا دفعة واحدة، بعدما استحضرهم الحلوة، للإحاطة بنصّ حرب وتعزيزه بالشواهد، من ابن الرومي إلى الحلّاج إلى اليازجي إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو والكنَدي Alain Deneault والمغربي حمدي التريعي… غير ضنينٍ بالأقوال الشعبيّة المأثورة، ممّا أضاف إليه ضياءً على ضياء. وقد صنّف الحلوة نصَّ حرب بالخواطر التأمّليّة، موضحًا أنّ “الخاطرة هي أدنى درجةً من الحكمة، التي تستدعي تجربةً من الاختمار الفكري مديدة، وتشي بالكثير من الدروس والعِبر…. تغلب السمة التأمُّليّة على الخواطر، التي أتانا بها الكاتب حرب… ويتحصّل منها عبرة، بقليل كَلِمها وكثيف معانيها!” (ص 23)
لم يقصر محمد إقبال حرب خواطره على الأنا والآخرالشريك في الوجود وفي التساؤلات والصراعات الداخليّة الباحثة عن أجوبة، وإنّما تناول الواقع الاجتماعيّ بشكلٍ عامّ، داعيًا إلى الثورة في سبيل الحرّيّة، منبّهًا إلى أنّ “نصْل الحربة الصدئ لا يقطع أصفاد العبوديّة”، وهو بذلك يذكّرنا بالآية: “لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيدِ” (لو 5: 36). مشيرًا إلى أنّ الثورة لا تنجح إن لم تكن جذريّة، متحرّرة من كلّ قديم، سلاحها مصقول بالجِدَّة والحداثة والتغيير، ولا يشوبه أيُّ أثرٍ من الماضي، إن كنّا نبغي تغييره وبناءه من جديد بطريقةٍ مختلفة.
الكثافة والاختزال، أو البلاغة، هي سمة خواطر حرب وتأمّلاته، وهذا ما يجعلها “تتواءم مع الثقافة المستجدّة” – وفق تعبير الحلوة – من خلال إيقاعِها والتِماعات الكاتب الفكريّة الموجزة (المقدمة ص 24). وهو ما يجعلنا نستمتعُ في العديد من خواطره بشُهد المبنى، ونذوقُ حلاوةَ المعنى، إذ نمرّ بالكلمات فنشتهي الاحتفاظ بها للحظاتٍ طمعًا باكتناه كلّ ما فيها من جمال وروعة إحساس. شذراتٌ تذكّرنا بكَرْم ميخائيل نعيمه، المثقل بالعناقيد، والمفتوح لكلّ راغب في تذوّق حلاوتها، ألم يسمّه “كرم على درب”؟ إذًا، هو مُشاع لكلّ العابرين. وهذا ما نلمسه في “بَرْقَعد” المثقل بعناقيدَ تختزن عصارة تجربةٍ حياتيّةٍ عميقة، وتشي بسهَر بستانيِّها عليها، ومدى خبرته في تقليب الأرض وريّها والعناية بها.
ونحن نقرأ يتبيّن لنا بشكلٍ واضح أنّ محمد إقبال حرب كاتبٌ خَبِرَ الألم: “قَدَاسَةُ دُمُوعِكَ قَدْرُ جِراحَاتِكَ”؛ والغربة: “رَغيفُ الشَّوْقِ يَنْضَجُ فِي مَخْبَزِ الغُرْبَةِ”(ص 30)؛ والعشق الصوفيّ: “بَيْنَ الأَنَا والأَنَا… عَشِقْتَ أَنْتَ فيه أَنَا.” (ص 31)؛ والرحمة بالضعفاء: “سأفتح كنز الرحمات…” مشرّعًا بابها واسعًا (ص 33)؛ والإخلاص: “بَينَ البِدَايَةِ والنِّهَايَةِ أسكُنُ جَسَدًا لا يُشارِكُني فيه سِواكِ.” (ص 35)؛ والضياع: “كُلَّما سَكَنْتُ إلى نَفسي تَساءَلْتُ إن كانَ لوُجودي مكانٌ أو لِمكاني وُجودٌ.” (ص 36)؛ والانعتاق: “الانعِتاقُ سرُّ اللّقاءِ معَ السَّماَءِ.” (ص 37)؛ وثار على الأثرياء الذين يفوق برد قلوبهم أمواج الصقيع وهبّاته (ص 38)؛ وعلى السياسيّين المجرّدين من الإنسانيّة كما من الوطنيّة: “عندما يتجلّى حاكِمُ بلادي تشتعلُ نارُ التفرِقَةِ والطّائفيّةِ.” (ص 50).
لقد جسّد معاناته هذه في أقوالٍ عميقةٍ تنمّ عن انصهارٍ كلّيّ، واختمارٍ أكيد؛ تجلّى كلّ ذلك في صفاء الرؤية العابقة برحيق الانعتاق، ومذاق الانصهار، هو القائل: “أنْزِفُ عُصارَةَ وُجُودي في خَابِيَةِ القَدَرِ…” (ص53) أديبٌ تَوحّدَ مع الكلمة، فأضحت ذَوْبَ إحساسه ولحنَ روحه. ألبسها ثوب فكره، وغزلها على مِنوال تجاربه، فاتّخذت ملامحه وعبّرت عنه.
نلمس في أسلوبه تماوج موسيقاه التي تبدو في صعودٍ وهبوط، فحينًا تأتي جملُه نثريّةً خبريّة، وحينًا آخر تظهر متجلببةً بالنغم الشعريّ المُبهج، عاكسةً ما في روحه من صراعٍ بين المادّيّ والروحيّ، المنظور وغير المنظور، السامي والوضيع، حيث يقول: “ما بين الجنّة والنار/ ترتع أشواقي وأسراري/ أعشقُ في الجنَّةِ حورِيَّةً/ وألفَ امرأةٍ في النّار”! (ص 39) معلنًا موت الحبّ عند عقد القران: “قبّلَها قُبْلَةَ الحُبِّ الأخيرةَ قبلَ عقدِ القِران.” (ص 44).
كما يلخّص قناعاته الدينيّة: “رَبّي وربُّكَ يَسكُنانِ بَيتَ الخالِقِ.” ملغيًا كلّ الفروقات بين الأديان، طالما أنّ مسكنَ الله خالقِ الكون واحدٌ؛ في الخاطرة الرابعة يقول: “تقديس الأموات لن يبعث فينا الحياة.” (ص 29) ملخّصًا تأمّله في تقديس الشعوب، من خلال دياناتهم، لشخصيّاتٍ رحلت، وإيمانهم بأنّ أولئك الأموات يمكنهم أن يبثّوا الحياة (أكان معنويًّا أو بشكل محسوس) في نفوسِ وأجسادِ عددٍ من المؤمنين بهم. مسجّلًا موقفه من هذه الأفكار وعدم إيمانه بها.
كما يتخوّف من واقعنا الاجتماعيّ الناتج عن تطوُّر العصر، وما قد يؤدّي إليه انجراف الإنسان خلف التكنولوجيا من دون وعيٍ أو تبصُّر: “التحوُّلُ من عالم الرِّقّ البَشري إلى رِقِّ الرَّقاقةِ الرقميَّةِ خُطوَةٌ أولى في مكننةِ البَشَرِ.” (ص 47)، وقوله: “رِقُّ الرقّاقةِ الرقميّةِ أكثرُ خطرًا منَ الأصفادِ الحديديّة.” (ص 73).
وكعادته يأتينا محمد إقبال حرب بصورٍ أدبيّةٍ غايّةً في الروعة، يسحرنا جمالُ تعبيرِها وملاءمتُها لواقع الحال: “في معبدِ الحاكِمِ شموعٌ من بشرٍ، عِمدانُها أجسادٌ وفتائلُها رقابٌ.” (ص 54) فالصورةُ تنقل لنا بطش الحاكم وسطوتَه، إذ يجعله إلها، الشعبُ عبيدٌ في هيكله، يحترقون لينيروا ظلامه. مشيرًا إلى استعبادهم بشكلٍ كلّي، ومصادرة حرّيتهم، وتشييئهم، ما يعني امّحاء كيانهم وذوبانهم الكامل في سبيل بقاء الحاكم ودوام سلطانه وبطشه.
تتشابك الأفكار في الكتاب مشكّلةً فسيفساء متعدّدة الصور والألوان، وكأنّ حرب أراد بفعله هذا أن يكسر المألوف، ويدوّن الأفكار كما تراوده، بعفويّة ومن دون تنظيم، فيجنّبنا الملل جرّاء الخوض في موضوع بعينه، متكلّمًا تباعًا عن الحبّ والكره والدين والسياسة… كما يتطرّق إلى الولادة والموت، والحرّيّة والعبوديّة، والتصوُّف والعشق، والفضيلة والرذيلة… من دون مقدّماتٍ أو فواصل، مكتفيًا بتدوين تأمّلاته عفوَ الخاطر، متحرّرًا من القيود.
وفي كلّ ذلك إنّما نلمس إحساس حرب المرهف، وإنسانيّته وصدقه، فهو يعترف بالآخر المختلف، والمقهور، والمتألّم، والمظلوم… كما ينقل لنا مشاعرَه الخاصّة وهواجسَه من دون خجلٍ أو ضعفٍ أو ادّعاء. وهذا ينمّ عن روحٍ حرّة، تبحث عن الحقيقة، وتُعلنها مهما كانت صعبة، وإن من منظاره الخاصّ.
يُغلَق علينا في بعض المواضع فهم دوافعه ومقاصده من بعض الجمل، لولا تطابق بعض العلامات التي رغم تجانسها لا تكشف أهدافه بوضوح، كقوله: “صنعت قدّيسا من بشر/ راحُهُ ناعمةٌ وقلبُهُ حجر/ ظننته خالدًا… لكنّه مات واندثر/ ورّث أبناءه استعباد البشر.” (ص 62) فمن جهةٍ، ليس بغريبٍ على مَن قلبه مِن حجر أن يورث أبناءه آفة استعباد البشر؛ ومن جهةٍ أخرى، يمكن أن نتوقّع أمرًا فنفاجأ بعكسه، وهو ما حصل حين ظنّ أنّ القديسَ خالدًا ثمّ اكتشف أنّه مائت كغيره من البشر. ولكن، ما الذي دفعه للقول إنّه صنعه بنفسه؟! وكيف يكون “قدّيسًا” وقلبه من “حجر”؟!… يعود بعد هذا التأمّل مباشرةً لينقضِ مفهومًا تربّينا عليه، وكأنّه يصوّب مسار الأمور، نافيًا فكرةَ أنّ الشمعة تُحرق نفسها في سبيل غيرها، معلنًا الحقيقة المحتجِبة خلف هذا الاعتقاد، ذلك أنّ الشمعة “تُشعَل ويُضحَّى بها”، وليس صحيحًا أنّها تُشعِل ذاتها… (ص 63)
ولا تغيب التساؤلات الوجوديّة، والانفعال الصاخب المستتر خلف مشاهد شبه عاديّة يُلحقها بعبارة قد لا ترتبط بها مباشرة، وإنّما تفسّرها وتُظهر بشكلٍ غير مباشر حقيقتها وواقعَها: “بين السماء والأرض عينا صقرٍ وفأرٍ./ الرَّدى يَبْتَهِجُ للقُربانِ.” (ص 67) فقد فصل بين الجملتين بشكل قاطع، مضيفًا نقطة في نهاية الجملة الأولى، تاركًا للقارئ الحصيف فهم أبعاد هذا الواقع. ففي الأولى نجد الطائر المفترس (الصقر) الذي يترصّد الطريدة (الفأر) لينقضّ عليها. وقد حرّك كلمة “فأر” بالكسرتين، ما يعني أنّه يقصد عطفها على المبتدأ المؤخّر “عينا”، بمعنى أنّ “بين السماء والأرض عينا صقر وعينا فأر”، فالعيون تشغل المساحة القائمة بين الطرفين وصاحباها واحدٌ يراقب من أعلى وآخر يترقّب من أسفل، فشتّان بين ما تحمله نظرات كلّ واحد منهما من معانٍ وأفكار… بينما في الجملة الثانية ينقلنا مباشرةً إلى ما بعد الحدث، فالفأر أضحى القربان، والصقر المبتهج مثّلَ الموت أو الردى الذي لا ندرك كنهه، ولا نعلم أسراره. وهو بذلك يعكس موقفه الغاضب من واقع الوجود الذي يتحكّم به ما هو أخطر وأكثر تعقيدًا من مشهديّة المفترِس والفريسة، إنّه الموت الذي لا نعرف دوافعه ولا أبعاده، وإنّما نجده يسخر منّا ويبتهج باصطيادنا قربانًا لنهمه الذي لا يشبع.
معظم المواضيع التي تناولها محمّد إقبال حرب في كتابه “بَرْقَعد” تُبرق وتُرعد، ولكنّها لا تجيب بشكلٍ قاطع على أيٍّ من تساؤلاتنا الوجوديّة، بل تتركنا غارقين في عبثيّة هذا الوجود الغامض الذي يجعل الخوف من الموت ملازمًا لنا، وإن تردّد مع الرعود “صدى الغابرين بُحّةُ نايٍ تبوح بتراتيل إله مرّ من هنا” (ص 68)، فـ “سبحة الموت طويلة… تَجمعُ خرزاتِها من أرواح محبّينا”؛ وتَثبت الرؤية على حقيقةٍ مخيفة: “شهيدي قاتِلُ ابنك.” (ص 77) فهل تدرك البشريّة يومًا أنّها في حروبها لا تحارب إلّا ذاتها ولا تقتل إلّا نفسها، والمنتصر الوحيد هو الشرّ المتحكّم بعالمنا؟ وإنّما “يقطفُ البشرُ بشرًا للَذّةٍ…” (ص 79).
وينال واقعنا السياسيّ المأزوم حصّة لا بأس بها من التأمّلات والتصريحات الجريئة، ذلك أنّ “الفساد، غيّرَ أحوالَ العباد، فجعل من السوقة أسيادًا، رفع السفهاء إلى علياء.” (ص86) وفي تصريح آخر يقول: “يمرح الذئب المفترسُ عندما تُصفّق له الكلاب الضالّة… كحال زعماءِ أمّتنا.” (ص 94)
بناءً على كلّ ما سبق، يختم محمّد إقبال حرب تأمّلاته بدعوةٍ صريحة يوجّهها إلى القارئ، طالبًا منه أن ينتفض ويثور على الواقع، ويعيد بناءه بكلّ ما أوتي من عزم: “كن “بَرْقَعد” / شكٌّ يفلعُ ويقينٌ يزرعُ”!
*أديبة و ناقدة لبنانية
[1] نُشر المقال على موقع جريدة النهار الإلكترونية في 19/1/2024