الشعرية كما شرحتها لطلبتي/ في تاريخ المصطلح و أصله
ليندا نصار*
عن كتاب “الشعرية كما شرحتها لطلبتي” للدكتور #محمودعبدالغني
يشكل كتاب “الشعرية كما شرحتها لطلبتي” الصادر عن دار توبقال في المغرب حديثًا، للروائي وأستاذ السرد الحديث والترجمة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، محمود عبد الغني، نقطة مهمة في النقد العربي الحديث، حيث اعتمد الباحث على الإحاطة بتاريخ مصطلح الشعرية وأصله، وعمد إلى جمع النظريات القديمة والحديثة والمقارنة في ما بينها، ليخلص إلى تعريف واحد واضح لها، وذلك بهدف الإجابة عن أسئلة تكررت على ألسنة طلاب الجامعات الذين سيشكلون مستقبل النقد، موضحًا الصورة الضبابية التي تمثلت في أذهان عدد منهم.
في تعريف مصطلح الشعرية
يرى الناقد محمود عبد الغني أنّ الشعرية هي أطول الحقول المعرفية عبر الزمن، وقد دخلت ضمن المواد التي تدرس في الجامعات، لكنّها تتعرّض لسوء فهم من حيث المصطلح. من جراء السؤال: ما هي الشعرية، وما هو تعريفها؟ اتضح أن الأدباء والنقّاد في حاجة ملحة إلى تعريف الشعرية. وبسبب عدم اطلاع الطلاب على الأفق المعرفي للشعرية، وربطها بالشعر، جاء هذا الكتاب ليوضح هذا المفهوم في الجامعات بدءًا من هؤلاء. وهو يرى أنّ الشعرية متأخرة عن الشعر، وليست متزامنة معه، ثمّ يقول إنّها علم موضوعه الشعر، وإنّ الواقعة الشعرية تبدأ من الانزياح والصورة البلاغية.
ويكتب الناقد في مقدمة كتابه عن فكرة اشتغاله على هذا الكتاب:
“عَرَضت لي فكرة هذا الكتيب مباشرة بعد أن نشرتُ كتابًا آخر قبله بعنوان “الترجمة كما شرحتها لطلبتي”، أردتُ من خلاله أن يتعرّف الطلاب على نظرية الترجمة إجمالًا. ومباشرة بدأتُ في تأمّل تقلّبات “الشعرية” وانتشارها بين جميع الطلبة من خلال ما يعتمدونه من مراجع في عروضهم وبحوثهم، لكن من دون أن تكون مفهومة تمامًا. وكلما طرحتُ سؤالًا عن مفهوم الشعرية وقضاياها، تصيبني الدهشة لتبايُن الإجابات وردود الفعل؛ إذ كان الجميع يربطون “الشعرية” بـ”الشعر”. والدهشة الثانية كان مصدرها جهل طلابنا بالأُسُس النظرية لهذا الحقل”. ويختم: “إنه من الضرورة المستعجلة وضع تصنيف واضح للشعرية. وإن حاجتنا هذه تفوق حاجة اليونانيين، الذين وضعوا المصطلح، إلى هذا التصنيف الدقيق. وإلا سنُبقيه من دون اصطلاح خاص ودقيق، حتى لا يصل الوضع إلى ما وصلت إليه الرواية، حيث كلمة “رواية” اليوم تعني كل شيء، وبذلك فقدت معناها الحقيقي بوصفها اسمًا لجنس أدبي”.
وخصص الباحث الفصل الأول من هذا الكتاب تحت عنوان: بلاط ومدينة وقرية، لدراسة قضايا الشعرية، والتعمق في مفاهيمها وأصلها وتاريخها.
يمثل هذا الكتاب مجموعة من الأسئلة والإجابات التي أتت على شكل حوار، أو نقاش، مع طلبته الذين أراد أن يوضح لهم مفهوم الشعرية الذي تعرض للغط عبر الزمان. بدأ بتجميع معرفة طلبته ليصحح لهم معرفتهم منطلقًا من علاقة الشعرية بنظرية الأجناس الأدبية، على أن هذا المصطلح أساسه علوم اللغة، وهو الذي يتكفل بالأجناس الأدبية. ويعيد عبد الغني نظرية النوع الأدبي إلى أرسطو في كتابه “فن الشعر”، الذي يرى أن الأنواع الأدبية هي من الأعراف الجمالية التي تساعد على فهم ومعرفة قوانين الشعر. ويتطرق الكاتب إلى نظرية الأنواع الحديثة ليخلص إلى أنّ الشعر لم يعد مقتصرًا على القصيدة، فقد نجده في أنواع أخرى. ويخلص إلى أن نظرية الأنواع الأدبية هي تعبير عن وعي نقدي، كما أنّها ظاهرة نقدية وتاريخية. كذلك يتناول الكاتب النصوص التي تتخطى قواعد الجنس الأدبي، ويعدها نصوصًا متفردة مخترقة لجنسها، وهي نصوص مجددة بالعودة إلى نظريات تودوروف.
وفي الفصل الثاني، يشتغل المؤلف على عنوان الأشياء المرئية من نافذة الشعراء، ويبدأ بسؤال حول ما يخطر في ذهن الطالب عندما يسمع بكلمة “شعرية”، فيلفت النظر إلى ضرورة التمييز بين “الشعر” المصطلح من الأصل الإغريقي، وبمعنى صنع، وبين “الشعرية” التي أصبحت على علاقة بكلمة “شعر”. ويغوص في تعريفه للشعر في كتاب جاكوبسون “ما الشعر”. والشعرية هي نوع من العواطف والإلهام وعندها تم استخدام “شعرية الخراب، الإحساس الشعري”… ويلمح الناقد إلى التغييرات التي حدثت في تاريخ الشعر والشعرية على أن هذا الفن في تطور مستمر مع الحضارات واللغة، وهو لا يرسو عند تعريف ثابت.
الشعرية بين التراث النقدي والحداثة
ينتقل الناقد إلى توضيح الشعرية في التراث النقدي، فيتوسع في تناول كتاب أرسطو “فن الشعر”. ويعود إلى نظرية المحاكاة التي ابتكرها أفلاطون في كتابه “الجمهورية”، وهي التي تعد الأطول عمرًا في النظريات الأدبية، وقد تناولها الفارابي، واستقى منها فلاسفة آخرون، مثل أرسطو، وهوراس، وغيرهما… الفارابي فهم المحاكاة فهمًا خاطئًا، كما ابن سينا، على أنها تشبيه وربط بينها وبين الظلال الأفلاطونية المنعكسة، ونواحي الاختلاف بين ابن سينا والفارابي. والشعرية أصلها قديم، وهي ممتدة في فروع كثيرة. لذلك هي حقل مركب، وتعدّ اسمًا مؤنثًا ابتدعه أرسطو لتعيين نظرية الأجناس الأدبية والخطاب، وفي صيغة المذكر يعني جوهر الشعر، وحين يتحقق في جنس أدبي آخر، ويورد هنا مثالًا على ذلك حين نقول “شعرية دوستويفسكي”.
“يعود محمود عبد الغني إلى أصل ترجمة النقاد العرب مصطلح poetique وإلى مترجمي مصطلح الشعرية في العصر الحديث، ما خلق أزمة واختلافًا في ما بين المصطلحات. ويشرح في باب البلاغة والشعر أنماط الأليغوريا وعلاقتها بالمجاز”
وقد تطور مفهوم الشعرية منذ أيام أرسطو وحتى اليوم، واختلف معناه وتعددت استعمالاته. ومع ذلك، يبقى مفهوم الشعرية العام “البحث عن قوانين الإبداع”.
ثمة اختلاف في مفهوم مصطلح الشعرية بين التراث العربي والمفاهيم الحديثة، وخصوصًا ما تم تعريفه في النظريات الغربية. ومن المفاهيم الحديثة أنّ مصطلح الشعرية يدل على علم الشعر، وليس على علم الأدب، وهذا النقاش الدائر بين الشعرية الأرسطية والشعرية البنيوية التي تقول بعلم الأدب.
وتحت عنوان أنصتوا إلى نصائح رومان ياكوبسون، يدخل الكاتب في تعريف الشعر عند هذا الناقد بأن هناك صعوبة في تحديد ما هو الشعر في كتابه، ويذكر في محاضراته أنّ الشعرية والشعر هما أيضًا خلق دائم لأشكال جديدة، والشعرية لا تنتسب إلى علم اللغة فقط، بل هي ملمح من ملامح الشعرية.
ويعود محمود عبد الغني إلى أصل ترجمة النقاد العرب مصطلح poetique وإلى مترجمي مصطلح الشعرية في العصر الحديث، ما خلق أزمة واختلافًا في ما بين المصطلحات. ويشرح في باب البلاغة والشعر أنماط الأليغوريا وعلاقتها بالمجاز.
ويركز في الفصل المخصص لمفاهيم الشعرية في النقد العربي الحديث عن الباحث الجزائري جمال الدين بن الشيخ المتخصص في الشعر العربي، ويجد أنّ البحث في الجمالية الشعرية العربية القديمة بدأت من تحديد الخصائص، ويعيد الفضل إلى بن الشيخ في تطوير هذا المشروع، وهو أول من عيّنها في كتاب “طبقات فحول الشعراء”، لمحمد بن سلام الجمحمي، الذي ركز على اعتبار الشعر موضوعًا لعلم الشعر، وقد اعتمد الموضوعية في تقييمه للشعر. فيرى أنّ الشعر ممارسة لغوية إنسانية، وبن الشيخ جعله خاضعًا للنقد ضمن معايير محددة ومضبوطة. ويتابع الناقد في التعمق بمفهوم ابن خلدون للأسلوب عبر العودة إلى مقدمته الشهيرة، بحيث يميز بين النسق التركيبي للخطاب، وبين البلاغة والبيان، وبين عروض الشعر.
ويشيد الدكتور عبد الغني بكتاب الناقد كمال خير بك الذي تناول الحداثة واتجاهاتها وأطرها الاجتماعية والثقافية…. وبالنسبة إلى خير بك فلقد تمكّن من رؤية نوع شعري جديد منفصل عن القصيدة التقليدية الكلاسيكية، وغيرها، على صعد عدة، منها القيم الشعرية.
وينتقل الطلاب في هذا الكتاب النقدي إلى أسئلة تنضمّ إلى تلك المرحلة التي تنمّ عن ذكاء وحسن متابعة لحركية الشعر، فيتطرقون إلى مجلة “شعر” التي تمكنت من نشر الشعر الجديد، وقد شكّلت دليلًا على حركة حداثة حقيقية، إذ أنّها لم تكتف بتجديد الشعر، بل اتخذت موقفًا ثقافيًا وأنطولوجيًا.
وكمال خير بك قام بدراسة نماذج من مجلة “شعر”، ومعهم ثلاثة شعراء عراقيين، وكأنه أراد أن يدرس الحداثة الشعرية في بداياتها، على أنّ الشعرية العربية اهتمت بالشعر وحده.
ويميل محمد بنيس في نقده للشعرية إلى رأي بات معروفًا، هو الذي قارن بين الشعريات الغربية والشعريات العربية ساعيًا إلى تأسيس شعرية عربية حديثة بالاعتماد على الأساس، أي على شعرية أرسطو. ففي رأيه، تأثرت الشعرية بالحضارات والثقافات القديمة، منها الصينية والهندية واليهودية… ومنها ما تأسس على الكتب المقدسة. وبعد كل هذه الدراسات حول الشعرية القديمة والحديثة، أطلق بنيس على الشعرية “شعرية مكبوتة”، والمقصود هنا كما جاء معنى الكبت في لسان العرب “الصراع والخيبة والإجزاء”، لأنها ظلت خارج الشعر، وقد خصّ بكلامه الشعر العربي.
وينهي الناقد محمود عبد الغني كتابه بلمحة عن أعمال يكثر الشعريون من الاستشهاد بها باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية.
*شاعرة و ناقدة -لبنان
المصدر : ضفة ثالثة