الشِّعريُّ في تجربة “فؤاد الخَشِن” بين الظَّفَر والخَيْبَة
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلامي)
مهداة إلى “عِماد حمزة”
رائعاً في شاعريَّةِ إنسانيَّته
وجيه
كما للشِّعر ظَفَره، فله كذلك خيبته!
يبزُغُ فَجْرُ ظَفَرِ الشِّعر، أوَّلاً، في نفسِ الشَّاعرِ، وقتَ يُحقِّق الشَّاعرُ لذاته النَّصَّ الذي يُعَبِّرُ بواسطته عمّا يجيش في وجدانِهِ من تفاعلات وانفعالات. يعيشُ الشَّاعر قلقاً أو تأزُّماً؛ ويظلُّ على عيشه هذا، تتفاعلُ في جوَّانيَّته عناصر توتُّر الخَلْقِ الفنِّي؛ ثم يكون النَّصُّ وجوداً لمعرفةٍ شعريَّةٍ. هنا، يرتاح الشَّاعر. تحَقُّقُ النَّصِّ هو خلاصُ الشَّاعر من توتُّرهِ الأوَّلي؛ إذ بات، ما أَحسَّ به من شعورٍ،كلاماً، وصار، تالياً، نصَّاً.انتقل الإحساسُ،بهذه الصَّيرورةِ، من مرحلة العيش الذَّاتيِّ الفرديِّ، إلى مرحلة الكتابة!
الشِّعرُ معرفةٌ ذاتيَّةٌ؛ ولكونِ مصدر هذه المعرفة ذاتيَّاً، فلا بُدَّ مِنْ أن تكون لغته ذاتيَّة؛ لغةٌ خاصَّةٌ، لغةُ الشِّعر. وكلَّما كانت المعرفة الشِّعريَّة ممعنةً في ذاتيَّتها، كلما كان الشِّعر رائعاً، ومتفرِّداً، وإبداعيَّاً. لكن، ومن وجهة ثانية، كلَّما كانت الذَّاتيَّةُ حقيقيَّة، كلَّما كانت لها لغتها الخاصَّة، التي لا يمكن أن تنفصل عنها؛ فاللُّغة مرتبطة بالموضوع؛ وإلاَّ فكيف يمكن أن يُعبَّرَ عن أمرٍ، بما هو خارج عنه؟
تتحقَّق الخيبة لحظةَ يواجه الشَّاعر أن لا بدَّ من التَّعبير بلغة ذاتيَّة خاصَّة إلى مستقبلين لها، قد لا يعرفوا، هذه اللُّغة؛ إذ اللُّغةُ التي يمكن أن تصل إلى الجمهور، هي عادةً، اللُّغة المشتركة، وليست اللُّغة الذاتيَّة. المشترَكُ موضوعيٌّ، والخاصُّ ذاتيٌّ؛ وهكذا، يبدو أنَّه كلَّما كانت اللُّغة مشترَكَةً، كلَّما كان الموضوعُ بعيداً عن العمقِ الذَّاتيِّ؛ أي كان بعيداً عن التَّفرُّد، وعن الإبداع، وعن الجِدَّة.
تبدأُ، انطلاقاً مِمَّا يمكن تسميته، مرحلة الكتابة، خيبة الشِّعر. فالشَّاعر، بعد أن كشفَ لذاتِهِ ما في جوَّانِيَّتِها من معرفةٍ، في تحقُّق النَّصِّ؛ بات يهجسُ بأن يُشاركهُ ناسُهُ هذا الكَشْف. فالإنسانُ الحقُّ، الكامنُ في كلِّ واحدٍ من النَّاسِ، يعسى إلى كشفٍ للحُجُبِ، التي تَسَرْبَلَ بِها بِحُكْمِ عيشه؛ ويسعى، أيضاً، إلى تحقيقٍ لِذاته، من خلال مشاركةِ الآخرين له في فِعل المعرفة؛فالمعرفةُ، موضوعيَّة كانت أو ذاتيَّة، هي واحدةُ من أهمِّ وسائل تَحَقُّقِ الإنسانيِّ في البشر.
ولذا، فإنْ ما تَوَصَّل الشَّاعر إلى تحقيقه لمعرفةٍ ذاتيَّةٍ، عبر النَّصِّ الشِّعريِّ، فقد بات ثمَّة هاجسٌ جديدٌ؛ لا بدَّ من أن ينقله، هذا الشَّاعر، عبر النَّصِّ إلى الآخر، وتحديداً إلى مَن سَيَسْتَقْبِل هذا النَّص، أو سيقرأه.
وطالما أن الشِّعر، الذي في النَّصِّ، لم يصل إلى مُسْتَقْبِله، إلى القارئ؛ فهذا الشِّعر يظلُّ شِعراً بالقوَّة وليسَ بالفِعلِ؛ وهو، تالياً، بحاجةٍ إلى الانتقال مِن نصٍّ موضوعٍ من قِبّلِ الشَّاعر، إلى نَصٍّ مُسْتَقْبَلٍ، معيوش من قِبَلِ الآخر، المُتَلَقِّي. شِعرٌ لا يمكن تحقيق استقبالهِ، أو تلقِّيه، هو شعرٌ ناقص. وتحقُّق هذه العمليَّة، تحقُّق انتقال الشِّعر من “موضوعٍ”، مكتوبٍ، إلى معيوشٍ، فاعِلٍ بحيويَّة استقبالِ الآخرِ له؛ من نَصٍّ يتألَّف من أحرف وكلمات جامدة بذاتها، إلى نَصٍّ فاعل بتدفُّق حيويِّة عيشِ استقبالهِ أو تلقِّيهِ، هو امتحانٌ وسعيُ تفعيلٍ لما يمكن تسميته “الشِّعري” في الشِّعر. الشِّعريُّ، هو التَّحقُّق الأسمى للشِّعر؛ إنَّه انفراجخيبة الشِّعر، بل إنَّه الظَفَر الأكبر للشَّاعر، وظَفَر الشِّعر الأكبر.
تنكشِفُ مشكلة التَّوصيل، واحدةً من أبرز عناصر البدءِ بتحقُّقِ الشِّعريِّ؛إذ صحيحٌ أنَّ ثمَّة عناصر أخرى عديدة، تدخل في تحقُّق الشِّعريِّ، لكن ما يمكنُ التَّركيز عليهِ، ههنا، في تجربة الشَّاعر “فؤاد الخَشِن”، هو موضوع التَّوصيل الأدبيِّ لِتَحَقُّقِ الشِّعريِّ. فعند “فؤاد الخَشِن” تجربةٌ طيِّبةٌ في هذا المضمار؛ وهي تجربة أهلٌ لأن تستوقِف الدَّارسين، يجولون في رِحابها، ويعملون على النَّظر في أسرارها؛ و”فؤاد الخَشِن”، أهلٌ لأن يُكرًّم من أجلها!
وُلِدَ “فؤاد الخَشِن” سنة 1924، في مدينة “الشَّويفات”، جنوب العاصمة بيروت؛ وتلقَّى عــــلومه في بيــــروت، فنال الإجازة التَّعليميَّة سنة 1946؛ ثمَّ مارس التَّدريس، في بعض مدارس العاصمة لسنوات عديدة. شارك، “فؤاد الخَشِن”، في تأسيس بعض الجمعيَّات الأدبيَّة في لبنان، منها “أسرة الجبل الملهم” سنة 1951؛ ثمَّ هاجرإلى فنزويلا،سنة 1952، لبعض أغراض العمل التجاريِّ،ليعودإلى الاستقرار في لبنان سنة 1960. اصدر “فؤاد الخَشِن” عدَّة مجموعات شعريَّة، منها “سوار الياسمين” و”غابة الزَّيتون” سنة 1962، و”أدونيس وعشتروت” سنة 1964، و”معبد الشَّوق” سنة 1965،و”الهوى وحديث العينين” سنة 1966، و”سنابل حزيران” و”دروب التَّوحيد”و”صلوات الشَّيخ الأزرق”؛ وضُمَّت أعماله الشِّعريَّة في مجلَّدين سنة 1993. نال، “فؤاد الخَشِن” جائزةجمعيَّة “أهــــل القلم”، كما استحقَّ جائــــزة الــــدولة اللــــبنانية عن سنتي1965-1966، وجــــائزةجمعيَّة “أصدقاء الكِتاب”؛ وكانت وفاته سنة 2004.
إن كان “فؤاد الخَشِن” شاعراً، فهو ولا شك صاحب عالم ذاتي، صاحب تجربة ذاتية، توحي له خصوصيَّتها ما توحي، ويسعى هو إلى تحويل هذه التَعابير إلى نصوصٍ. نصوصُ الشِّعر هي وسيلةُ معرفةِ ما وراءَ الشِّعر، وما هو كامنٌر في النَّفس الإنسانيَّة التي صدر عنها هذا الشِّعر، بل بالإنسان الذي في الشَّاعر، وفي عُمق هذا الإنسان، في عمقه الأسمى والأصفى، عمقُ كل إنسان آخر. أما يقول “الخَشِن”، في ديوانه:
خيرُ شِعْرٍ في قَصيدَةٍ هِيَ في النَّفْسِ باقِيَة
وهذا الشِّعرُ، معرفةٌ، لكنها، وكما يذكر “الخَشِن”، معرفةٌ لا تتأتَّى عن طريق العقل؛ إذ هي ليست بالمعرفة الموضوعيَّة، التي يشترك فيها الَّناس؛ بل هي معرفةٌ ذاتيَّةٌ خاصَّةٌتتأتَّى مِن أنَّات القلب، ومن رهافة الشُّعور، وتعبِّر عن وجودِها بلغتها الذاتيَّةِ الخاصَّة المنبثقة منها وجوداً مميزاً:
هِيَ في القَلْبِ رَعْشَةٌ يَجْهَلُ العَقْلُ مَا هِيَه
كُلَّما جُنَّ وَمْضُهــــــا لاهِباً فـِــــــــــــي فُؤادِيَه
رُحْتُ أَهْذي.. كَراشِفٍ مِنْ شَرايين دالِيَه (20)
لكن، ورغم كلِّ ما في شعر “الخَشِن” من سعيٍّ إلى تفجير هذه الذَّاتيَّةِ الفرديَّةِ، بل هذه المعرفة الخاصَّة، المعرفة الشِّعريَّة في نصوصه، فإنَّ لِشِعْرِ الرَّجل لغة بسيطة، قريبة من القلب، تَدْخُلُه بظَفَر، وتحقِّقُ، بدخولها، ظَفَر التَّوصيل! هنا يبرز عنصر تحدٍ هامٍّ في تجربة تحقُّق الشِّعريِّ عند “فؤاد الخَشِن”. “الخَشِنُ” شاعرٌ قادرٌ على توصيل شِعره؛ وهو لا يعاني، في شِعره، ما يعانيه بعضُ الشِّعر العربيِّ المعاصر من إنغلاقيَّة فاجعةٍ؛ ومن إنقطاعٍ، يكاد يكون تامَّاً، بين النَّصِّ ومُسْتَقبلهُ أو قارئه؛ فيتحوَّل الشَّعرُ من سِحرِ غموضِ اللُّغة الذَّاتيَّة إلى دنيا فَكِّ الأحاجي وحلِّ الطَّلاسم. لا، ليس في شعر الخشن طلاسم، ولا في شعره أحاجي، بل فيه إحساس إنساني ذاتي، إحساس خاص، لكنه قادر على الوصول.
وإذا ما تساءل المرء عن سر هذا الوصول، فهل هو في خيانة اللغة الذاتية أم في أمر آخر! وواقع الحال أن “فؤاد الخَشِن”، في شاعريته، يصل إلى عمق ذاته؛ وعند العمق، العمق الحقيقي، تتلاشى كل التعقيدات والتهويمات. هنا تظهر البساطة الحقة، البساطة العميقة، والإنسانية الحقة، إنسانية كل بشري على هذه الأرض. هنا، يتلاشى صخبُ الأمواج، وينتهي تدافع الموجودات، ليستقرَّ الوجودُ في سكينةٍ رحبة للنَّفس، سكينةٌ تتجلَّى من خلالها الذَّات الإنسانيَّة الواحدة صفاءً ألِقاً؛ وطبعاً، هو صفاءٌ نسبيٌّ على قدر إبداعِ كلِّ شاعرٍ، وعلى مستوى همَّته!
عندما يكشف “الخَشِن” عن عمق إنسانه، عن هذا الإنسان الكامن في كل واحد منا، فلغة التعبير تصبح قاعدة على الوصول إلى كل إنسان يتلقى نصًا “لخَشِن”، مِن دون أن تخون هذه اللُّغة ذاتيَّة موضوعها، أو تحتال على حقيقية هذه الذَّاتيَّة. بساطة الذَّاتيِّ، في عُمق وجوده، لا تنبثق عنها إلا بساطةُ اللُّغة في عُمق تأديتها، وهذا سرٌّ من أسرارِ الشِّعر عند “فؤاد الخَشِن”، بل هذا هو مفتاح التَّوصيل الأدبي الحق!
مثل كل رجل حيٍّ، ينبض بالشُّعور، أحسَّ “فؤاد الخَشِن” بالأنثى؛ ومن خلال إحساسه بالأنثى استطاع الشَّاعر فيه أن يصل إلى معرفة بعضِ ما في كينونتها. إستطاع “الخَشِن” أن يعيش جمال المرأة، واستطاع أن يعيش لذَّة ما عندها من إغراءٍ، واستطاع، كذلك، أن يسبر غور كلَّ هذا الموجود إلى ما في أعماقه من اسى! المرأة، كما أحسَّها “الخَشِن”، فعلُ تأزُّمٍ مُتَنامٍ، تأزم يقوده الجمال، وتتفاعل فيه المشاعر، ثم يُتَوِّجُّهُ الحزن، حزنُ الإحباطِ، أو حُزن الوحدة، أو أي حُزنٍ آخر، المهم أنه حزن؛ أو ليس في أنثى كثيرٍ من المجتمعاتِ العربيَّةِ حزنٌ أساسٌ في تكوّن تفاعلها مع الحياة؟ أو ليس في كلِّ أنثى، في الوجودِ المجتمعي للبيئات المتعدِّدة في لبنان، هذا الصِّراعُ الدَّائم بين تفجُّر الأنثى وبين تراكم السُّدود، تنهال عليها من كل حدب وصوب؛ تمنعها من تحقيق وجودها الأنثوي، أو تَحدُّ من تحقُّقه؟! ومع تعقُّد الرؤيا، وتشابك عناصر الموضوع، يأتي الخشن يُعبَّر عنه ببساطة عميقة ساحرة، وبلغة هي الأقدر على التوصيل، فهو، على سبيل المثال، يقول:
وردةٌ ذاكَ….!
أم فمُ؟
أم مِنَ النَّارِ
بُرعُمُ!!
فوقُه الشوقُ لاهثٌ
والأماني تُغمْغِمُ
خلف ظلٍّ من الأسى
طاف فيه يُهَوِّمُ!
بسمةُ الجرحِ!!
من رأى
شَفَةَ الجرحِ تَبْسُمُ؟! (ص 30)
لكن الأمر، ليس بهذا القدر من صفاء الوصول إلى بساطة الذَّات بالفعل المستمر في حياة كل إنسان، ولا في حياة كل شاعر؛ وأيضاً في مسيرة “فؤاد الخَشِن” كلها. فـ”فؤاد الخَشِن”، مثل أيِّ إنسان ومثل كلِّ شاعر، له قممه وله أوديته. وفي بعض قصائده، يتخلى الشَّاعر، أو هكذا قد يبدو، عن تجربته الذَّاتيَّة، ويسعى إلى إسقاطٍ، أو تَبَنٍّ، لتجارب الآخرين في ذاته. وهنا، تبقى بساطة اللُّغة عند “الخَشِن”؛ غير أنَّها تتحوَّلُ، في هذه الحال بالذَّات، إلى بساطة خطابيَّة باردةٍ، بل إلى ما يشبه الإنشائيَّة. قد يكون “الخَشِن”، ههنا، مجرَّد ترجمان، ينقل المعاناة والفكرة والكلمة؛ وأيَّاً كانت جودةُ “النَّ اقِلِ”، في هذا المجالِ لما ينقله، فإنَّها تبقى ضمن جودة الترجمان؛ تلك الجودة المحصورةُ، في أساس وجودها، بفعل النَّقلٍ، وليس بفعل الذَّات. هكذا يتعثر التَّوصيل الحيُّ الذي ينتاز به “الخَشِن”؛ ولعلَّ “الخَشِن” يعرض، في مثل هذه المقاماتِ، لبعض تلقِّيه للثَّقافةِ أكثر مِن عرضه لعيشها.
ولعلَّ من الأمثلة على، ما سبق، ما استوحاه الشَّاعر من تجارب لم تكن له، بل لشعراء آخرين؛ كما في قصيدته “صوت الشَّجرة”؛ فاللُّغة على بساطتها، منبريَّة، مباشِرة، تنقل الفكرة، تترجم الإحساس كلاماً، لكن قد لا يحسُّ المستقبِلُ لها أنَّ وراء الكلام حياة، وطبعاً فقد لا يتمكَّن من أن يعيش معها حيويَّة ما بعد الكلام:
رويدك أيها القاسي
ودع فأسك
ولا تفكر بتحناني!
*
أترديني
بفأس زندها مني
بأيدي الظلم مقطوعٌ
ولا ترحم
صباي الرِّيق الرطب
وبتقيني
لأبلغ ساحل العمر
ويمسي جسمي ألا ملوء بعد فنائه حطباً (ص 39ـــــــ40).
قد تغلب، في هذا المقال، الموضوعيَّة المشتركة على الذَّاتية المتفرِّدة؛ ويدخل “الخَشِن” تجربة العام من دون أن يكون قد أنطلق من فعل الخاص!
لكنَّ نفس “فؤاد الخَشِن” نفس شاعر؛ وشاعريَّته، وإن كانت تمرُّ أحياناً، بل ولا بدَّ لها، بمراحل هضم المُعطى الثَّقافيِّ، فهي تعود لطبيعتها الذَّاتيَّة؛ بعد أن تكون قد حوَّلت المُعطى إلى وجودٍ من صميم الذَّات. هكذا، وعلى سبيل المثال، يربط “فؤاد الخَشِن” فعل استشهاد المقاومِ للاحتلال الصُّهيونيِّ، “عريس الجنوب”،”بلال فحص”، بِعمقِ الثَّقافة التَّوحيديَّة؛ وهكذا تتمظهر التَّجربة الجهاديَّة، فعل استشهاد ينمو باتِّجاه تحقُّق الوجود،وليس باتِّجاه التَّلاشي. وهنا، يبلغ “الخَشِن” روعةً في الصُّورة والفِكرة، لكنَّها روعةُ المعرفة الذَّاتيَّة بأعمقِ تعبيرٍ وأغزرهِ سلاسةً وأصفاه صورةً:
وهجك البرقُ الذي يُشْعِل شريان السماء
ويدوي وحده في هذه الأرض الموات
واعداً بالغيث والخصب.. وتكرار الرجوع
بقميص يتجدد
بعد خلجات العبور
ويُنقّي من وصول الذل والعار جباه الراكعين
عند أعتاب الخنوع (ص 439)
بِدأً من سنة 1961، السَّنة التي نشر فيها “فؤاد الخَشِن” مجموعته الأولى، “سوار الياسمين”، إلى يوم وفاة جسده سنة 2004، وهو يمارس تجربة شعريَّة تقوم، فيما تقوم عليه، على فعل التَّوصيل. ومن يوم أن بدأ “فؤاد الخَشِن” فعلَ المعرفة الذَّاتيَّة هذا، والشَّاعر الذي فيهِ، لم يحظْ بحقِّه من الدِّراسة والتَّعرُّف على تجربته. واليوم، وبعد ما ينوف على أكثر من أربعين سنة من بدء نشر ثمار التَّجربة، فإنَّ“فؤاد الخَشِن” يستوي ناجحاً يُغري الباحثين عن جوهرٍ فَذٍّ للشِّعر وعن الإنسان، بالقطاف. والدَّعوة موجَّهةٌ إلى الإنسان في كلِّ واحدٍ من الدَّارسين لشؤون الأدبِ، والباحثين في تجارب الشُّعراء، ومستقبلي الشِّعر، لتعرُّفِ كُلٍّ منهم على حقيقةِ ذاته من خلال ما يقدِّمه “فؤاد الخَشِن”من معرفتِهِ لحقيقةِ إنسانه!
*نقلا عن موقع Aleph Lam