ُسلام الرَّاسي “الحلقة الثَّانية و الأخيرة ” مَفْهومٌ للكتابة وَ الأَدَب
Like | Soumaya | ديسمبر 15, 2019 | أدب وفن 161 Views
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثَّقافي الإسلاميّ)
مِنَ الجَلِيِّ أنَّ “سَلام الرَّاسي” آمَنَ أنَّ الأدبَ ابنٌ لِلنَّاسِ، وأنَّ مهمَّتهُ، في الحياةِ، أن يتوجَّهَ بهذا الأدبِ إلى النَّاس. ومن هنا، فقد التزم “الرَّاسي”، في كتاباتِه، كما في حياتِه كلِّها، النَّاسَ هاجِساً ثَقافِيَّا وأَدَبِيَّاً ووُجوداً اجْتِمِاعيَّاً وتارِيخيَّاً ومُسْتقبليَّاً يَتَوَجَّهُ عَبْرَهُم إِلَيهم، ويَعملُ على تقديمِ ما عِندَهُ بأقربِ ما يُمكن مِن طُرُقِهِم ومناهجِ تَعبيرِهِم وسُبُلِ انفعالِهم وفِعْلِهِم1. وإذا ما كانَ مِن تحليلٍ لهذا التَّوجُّهِ عند “الرَّاسي”، فلعلَّ بالإمكانِ رَبْطَ هذا الأمر بمصدرين مؤثِّرَيْن في تكوينِ “الرَّاسي” الفِكرِيِّ والاجتماعِيِّ. أوَّلُ هذين المصدرين ما عرفه “سَلام الرَّاسي” عن والدِه، المُنغمس في الخِدمةِ العامَّة للنَّاسِ، والذي توفي ولم يكن ابنه “سلام” تَجاوَزَ السَّابعةَ من سِنِي العُمر. كانَ هذا الوالدُ، وكما يُخْبِر “سَلام الرَّاسي” في كِتابِهِ “ثمانون”، قِسَّاً بروتستانتيَّاً ومُعَلِّماً مَدْرَسيّاً متفانياً، لا في خِدمةِ رَعِيَّتِهِ وحسب، بل في خِدمةِ النَّاسِ قاطبةً مِن أهلِ منطقتِه؛ وكانت والدةُ سلام، تُعِدُّ ابنها هذا لِيكمِلَ رسالةَ والدِه، الدِّنيَّة والاجتماعِيَّةِ، ويسيرَ على خُطاه2 . أمَّا ثاني هذين المَصْدَرين، ولعلَّه الأكثر فاعليَّةً بينهما، فَيَكْمُنُ في الفَهْمِ الذي سادَ جماعاتِ “الحِزب الشُّيوعيِّ”؛ الذي انتشرَ في النِّصفِ الأوَّلِ من القرنِ العِشرين في لبنان. وكذلك بتأثيرٍ مِن مبادئ مذهب “الواقِعِيَّةِ الاشتراكيَّةِ”، الذي سار كثيرٌ من الأدباء والمثقَّفين اليساريين في رحابه؛ وقد تَمَحْوَرَ حول أهميَّةِ تَوَجُّهِ النَّشاطِ الإنسانيِّ إلى الجماهيرِ، والسَّعيِّ الدَّؤوبِ، عَبْرَ الأدبِ وبهِ، إلى التَّفاعلِ الحياتيِّ مَع هذه الجماهير، خِدمةً لِما فيهِ مَصلحتِها وأحقيَّتها في العيش وممارسة الوجودِ على مختلفِ مستوياته. وغَنِيٌّ عن البَيان، أنَّ “سَلام الرَّاسي” لم يكن، وخاصة في المرحلة المبكرةِ من شبابِه، بعيداً أبداً عَن أجواءِ هذه الجماعاتِ الشُّيوعيَّة الهوى أو الانتماءِ في منطقته.
وإذا ما كان “سَلام الرَّاسي” آمن، عبر الأُسْرة، والمجتمع مِن ثَمَّ، بدافعٍ من تثاقُفِه الحيِّ مع الواقعِ العقائديِّ والاجتماعيِّ الذي نشأ فيه، بِشَعْبِيَّةِ الأدبِ طريقاً ومنهجاً وأسلوباً في مُمارسِةِ الكِتابةِ والمُشاركةِ في تفعيلِ الثَّقافَةِ، فإنَّ هذه “الشَّعبيَّة” تمثَّلت لَهُ بِشَكْلٍ كبيرٍ في الارتباطِ بالثَّقافةِ القرويَّة الشَّعبيَّة التي كانت أوَّل ما ما واجَهَهُ وتعاملَ معه مِن مظاهرِ الفِكْرِ والعَيْش. وإذا ما تأمَّل المرءُ ما تَرَكَهُ الرَّاسي مِن مَكْتوباتٍ، لَوَجَدَ أنَّ البيئةَ الثَّقافيَّة لأهلِ الجنوبِ في لُبنان، حيثُ وُلِدَ الرَّاسي وَنَشأَ وَتَرَعْرَعَ، هي الأكثر حضوراً وبروزاً، وهي المِحور الأَساسُ الذي تَدورُ مِن حولِه هذهِ المَكْتوبات أو تَنْطَلِقُ مِنه في قِيَمِها ومَبادئها وأَعرافِها وتَوجُّهاتِها وعَرْضِ خبراتِها الحياتِيَّةِ وطَرح رسالتها في الوجود.
ومِن جهة أخرى، فقد تمكَّن “سَلام الرَّاسي” من معاينة ممارسته لِفَهمه لهذه الثَّقافة وامتحانه لهذه المُمارسة عَبْرَ وظيفتِه الإدارِيَّةِ، ولكن غير الرَّسمِيَّة، التي أُسْنِدَت إليهِ في “مصلحة التَّعمير” لِيَفُضَّ ما أمكنهُ من مشاكِلِ النَّاسِ مع إدارةِ “المصلحة”؛ فكانَ عَمَلِهِ هذا المختبر الفِعْليّ الكبير الذي امْتَحَنَ فيه أمور الثَّقافة الشَّعبيَّة ومسالكها؛ فتَمَكَّن من الإمساكِ بزمامِ كثيرٍ مِن مَفاصِلِ مُقوِّماتِها وعناصِرِها التي أصبحت الماءَ والطَّحين قي عَجينِ كِتاباتِه. ومِن هنا، لَمْ يَقْتَصِر الرَّاسي في تعامله مع الثَّقافة الشَّعبيَّةِ القرويَّةِ، وإنْ كانت هذه من المرتكزات الأساس في تكوينه الثَّقافيِّ؛ بَلْ تَفاعَلَ، أيضاً، مع الثَّقافة الشَّعبيَّة المَدِينِيَّةِ، بعدما تسنَّى له أنْ يُقيمَ في العاصِمَةِ اللُّبنانيَةِ بيروت، ويَطَّلع على ما أَمْكَنَهُ مِنْ تُراثِها الشَّعبيِّ وعَقْلِيَّةِ أبناءِ الشَّعبِ فيها. وإنَّها لظاهرةٌ فريدةٌ أنْ يُرَكِّزَ مُثَقَّفٌ على الجوانب الشَّعبيَّةِ في وجودِ العاصمة بيروت، في حين أنَّ غالبيَّة المثقَّفين الذين عرفتهم هذه العاصمةُ، أو حتَّى أنجبَتهم، قَلَّ أنْ استطابوا التَّركيزَ بِعُمْقٍ، في كتاباتِهم، على ما يُمْكِن اعتبارًهُ الجوانب الشَّعبيَّةِ، البسيطةِ واليومِيَّة أو حتَّى الحميميَّةِ، مِن حياةِ ناسِ العاصمة.
دَرَجَ بعض النَّاس، ومن بينهم دارسين أكاديميين وضعوا رسائل وأطروحات جامعيَّة عن “سَلام الرَّاسي”، على اعتباره جامِعاً للتراث الشَّعبي في لبنان؛ بل إنَّ بعضهم أَمْعَنَ في سَعيٍّ إلى درسِ قسمٍ من مكتوباتِ الرَّاسي، باعتبارِها وثيقةً تاريخيَّةً اجتماعيَّةً مُسْتَلَّةً مِن ماضٍ نَبَتْ عنه بعض مجموعات كُتُبِ التَّاريخ أو حاولت تجاهله. ولكن نظرةً مُدَقِّقة في مكتوباتِ “سَلام الرَّاسي” هذه تُشيرُ إلى أنَّه كانَ يستقي كثيراً من مواد كتاباتِه مِن التُّراثِ، ومِن الأحداثِ التَّاريخيَّةِ والأقوالِ الشَّعبيَّةِ، ليصوغَها بِلُغَتِهِ الخاصَّةِ وليقدِّمها أدباً يتَّسِمُ بروح الشَّعبِ ويَفوحُ بِعَبَقِ وجوده. فالرَّجل أديبٌ قَبْلَ أنْ يكونَ مؤرِّخاً، وهو يؤكِّد هذا بقوله “إَّنني أُعنى بالأدب الشَّعبيِّ، وهو أدبُ التَّعبيرِ عن الواقع الإنسانيِّ، ولا شيء غير الواقع الإنسانيِّ”3 . ويقولُ الرَّاسي، أيضاً، “قد يكون هنالك أدبٌ خاصٌّ بالُّنخبة من النَّاس تُعَبِّرُ به عن مفاهيمها في الحياة وتذهب به مذاهب شتَّى في التَّسميات. وقد يكون هنالك أدبٌ خاصٌّ بالعامَّة من النَّاسِ وهو يتمثَّل بالحكايات والأمثال والخرافات والأساطير والأغاني والأزجال، ويُعرف باسم الأدب الشَّعبيِّ. ولكن ما دامت هنالك أفكارٌ وعواطفٌ وهمومٌ واعتباراتٌ مشترَكة عند جميع النَّاس، فلماذا لا يكون عندنا، إذاً، أدبُ ناسٍ لِجميعِ النَّاس؟”4 . وهكذا يتأكَّد أنَّ “سَلام الرَّاسي” كان أديباً شعبِيَّاً، مادَّة أَدَبِهِ عن الشَّعب، وهذه المادَّة موجَّهة إلى الشَّعب؛ ولقد امتاز توجُّهه الأدبي بِلُغَةٍ تُراعي الفصحى، مِقدِّمَةً لها أجلَّ آيات الاحترام والاعتزاز والتَّقيُّد بأصول الصَّرف والنَّحو، لكن من غير ما تَحَرُّجٍ من الاستشهاد بالمَحْكِيَّةِ، حيث يُشَكِّلُ هذا الاستشهاد ضرورة لا بدَّ منها لكمال الأدب وتألّثق روعته. ولعلَّ في هذا ما قد يُذَكِّرُ بعض النَّاس بأبي عثمان الجاحظ؛ ودعوته المشهورة إلى الاستشهاد بالكلام بالكيفيَّة التي قيل بها، حتَّى وإن كانت هذه الكيفيَّة مُغايرة لأصول اللغة وقواعد صَرْفِها ونَحْوِها. إنَّها الدِّقة العِلميَّة بعينها، و”سَلام الرَّاسي” في هذا دقيق جداً أكان في كتابته باللغة العربيَّة الفصحى، أو كان ذلك في استشهادِهِ بكلام العامَّة.
لا يَنْهَلُ سلام الرَّاسي في أدبِهِ مِنَ التَّاريخِ، بِقدرِ ما يَعُبُّ عَبَّاً مِنَ الحاضِر! فالرَّاسي ليس باحثاً مُتْحَفِيَّاً لا يرى سِوى الماضي ولا يَتَقيَّد إلاَّ بظروفِهِ وشروطِهِ وواقِعِهِ. والرَّاسي لَيْسَ، بأيِّ حالٍ مِن الأحوالِ، باحِثاً تَوْلِيديَّاً، يَخْترعُ أموراً لَمْ تَكُن ويُثْبِتُ أَحداثا لَمْتَحْصَل أَو أقوالاً لَم تُقَل. إنَّهُ صنفٌ آخر، فيهِ مِن هذا وذاكَ، وفيهِ ما يَسْعى هُوَ دائماً إلى تعريفِ نَفْسِهِ بِهِ: “إنَّهُ رَاويَةُ أَحاديثِ النَّاسِ للنَّاسِ”5 .
إنَّ الرَّاسي لا يغوصً في التَّاريخ يُنَقِّبُ عن العاديات والمهجورات والتَّالفات مِمَّا قد تكونُ ثمَّة حاجَّة إلى ترميم ما فيهم، كما قد يفعل خبير المتاحف؛ والرَّاسي لا يقوم، كذلك، بعرض ما يصادفه من تراثٍ شعبيٍّ كما يجده في حالته “الخام” التي يكون فيها. إنَّ سلام الرَّاسي، وكما يُعَرِّف هو عن نفسه، في مقدِّمةٍ وضعها لواحدٍ من أوائل كتبه “حكي قرايا وحكي سرايا”6 ، يَسعى إلى إلقاءِ الأضواءِ على جمالِ أفكارِ عامَّةِ النَّاسِ في لُبنانَ وأقوالِهِم. وإذا ما أرادَ المرءُ تَعَرُّفاً على هدفِ سلام الرَّاسي مِن وَضْعِهِ لِمُص نَّفاتِهِ هذهِ، فإنَّه يجدُ هذا في كلامِ الرَّاسي نفسه في مقدِّمةِ كتابه “حِيص بِيص”7 إذ يذكر: “يُحكى أن أحد رجال الدِّين أراد أن يبني معبدا لله في قريته، وراح يستنهض هِمَمَ أبناء القرية –وجلُّهم من القرويين- ليجودوا على الله ببعض ما جاد عليهم من حبوب أرضهم. فقال أحد المشكِّكين: وهل تصير الحبَّة قُبَّة؟ لكن ذلك لم يَفُتْ في عضد رجل الله وثابر على جمع الحبوب وبيعها وانفاق أثمانها في سبيل الله، حتَّى أتمَّ بناء المعبد، فقيل: ’صارت الحبة قُبَّة’. وها أنذا أثابر منذ ثلاثة عشرة سنة على جمع حصاد مأثورات الأدب الشعبي…فهل تصير الحبَّة قُبَّة؟” وفي هذا النَّص، للراسي، ما يشير إلى أنَّ الرَّجل كان على وعي تام بأنَّه يؤسِّس لجديد في الكتابة الأدبيَّة العربيَّة المعاصرة، وأن هذا الأمر يحتاج إلى كثير من الصَّبر والجلد والمثابرة إذ هو حديد بشكله ومضمونه وهدفه.
يمكن القول إنَّ سلام الرَّاسي أديب عربي معاصر من نوع قلَّ أن عرفه الأدب العربي المعاصر من قبله؛ بل هو أديب عربي معاصر أسَّس لكتابة أدبيَّة مميَّزة بموضوعها ولغتها وهدفها؛ ولذا، فلا يكون من العدل أن يقارن المرء بين أدب سلام الرَّاسي وكتابات كثير من الجماعات التي اهتمَّت بتدوين التراث الشعبي وأقواله. هؤلاء مُدَوِّنون للتراث كما كان أو كما وصل إليهم، أمَّا الرَّاسي فأديب يكتب بلغة الشعب إلى الشَّعب.
تُشَكِّل “الحكاية” أساس بنائيَّة النَّص عند سلام الرَّاسي، بل هي مصدر كبير من مصادر حيويَّة نصوصه وقدرتها على التَّوصيل أيَّاً كانت نوعيَّة المتلقي. والحكاية، كما يقول الرَّاسي، “من أبلغ وسائل التَّعبير في الأدب الشَّعبي. والأدب الشعبي، حسب تقديري، هو أيسر سُبُل التَّفاهم بين النَّاس، حتَّى بين المفكرين ورجال السياسة”8 . ويمكن للمرء أن يلاحظ أن ما نص في كتب سلام الرَّاسي إلاَّ ويقوم على حكاية ما، وقد تكون هذه الحكاية واقعيَّة معروفة من قبل كثيرين، كما يمكن أن تكون من خيال الرَّاسي نفسه؛ لكن الغرض منها تيسير وصول الرسالة التي يريدها من النَّص. ويأتي “المثل الشَّعبي” أو “القَوْل المأثور” أو “الشِّعر” عاميَّاً أو فصيحا مع الحكاية، عند الرَّاسي، ليدعم رسالتها كي تكون أكثر تأثيراً في المتلقي أو أشد سطوعا في ذاكرته ومشاعره.
يُمكن اعتبار سلام الرَّاسي أديبا عربيَّاً معاصراً، قدَّم إلى الأدب العربي تجربة جديدة في تارخه الحديث. لقد بشَّر الرَّاسي، عن وعي ومسؤوليَّة أدبيَّة تقوم على رؤيَّة موضوعيَّة واضحة، بنوع جديد من الأدب. إنَّه ليس بأدب النُّخبة، وإن كانت النُّخبة تُقْبِلُ عليه وتُسَرُّ به؛ وليس بأدب التُّراث، وإن كان فيه كثير من التُّراث؛ وليس بأدب العامَّة، وإن كانت العامَّة تُشْغَف به وتَسْتَعْذِبُه. إنَّه، وببساطة شديدة ووضوح أشد، وكما سمَّاه صاحبه الرَّاسي، “أدب النَّاس للنَّاس”. ولعلَّ هذا الأدب، بالمفهوم الذي أشار إليه الرَّاسي، يشكِّل متابعة ما لبعض ملامح تجربة الأديب العربي الكبير أبو عثمان الجاحظ، الذي عاش في العصر العبَّاسي، فإن في الأمر ما قد يشكِّل دعوة إلى تعمُّق في دراسة تجربة الرَّاسي هذه، في ضوء فهم جديد لِتجربة الجاحظ.
كان الجاحظ، كما هو معلوم، من كبار مثقَّفي زمانه ومفكريه؛ وكان يعمل على إيصال رسائله الثقافية والفكريَّة من خلال كتاباته الأدبية. ولقد تمكَّن الجاحظ من توصيل ما يريده، عبر الكتابة الأدبيَّة التي قدَّمها، إلى جمهور غفير ما برح يتزايد كمَّا ونوعا إلى يومنا هذا. واليوم، لا يمكن للمرء إلاَّ أن يَشْهَد لكثير من مظاهر الطَّلاق بين كثير من كتابات المفكرين والمثقفين والأدباء والجمهور الذي يتوجه هؤلاء إليه. فالإقبال على الكتب الفكريَّة والأدبيَّة قليل، ودور النَّشر تشكو كثيراً من ضعف التَّوزيع وضآلة إقبال النَّاس؛ بل ثمَّة من يرى أن الكتاب، بشكل عام، والأدب، بشكل خاص، باتا من شؤوون النَّخبة ولم يعد للجمهور العريض أي علاقة بهما إلاَّ فيما ندر. ومن جهة أخرى، فإن كُتُبَ سلام الرَّاسي شهدت إقبالاً من قطاعات الجمهور كافَّة، وقدَّمتها الدُّور التي اهتمت بنشرها في عدد من الطَّبعات التي ما فتئت تتزايد. وسلام الرَّاسي، نفسه، احتلَّ مكانة مرموقة جداً في دنيا الثقافة العربيَّة المعاصرة، وإن كان كثير من النَّاس ما انفكوا يخلطون في موقع هذه المكانة.
يرى بعضهم في الرَّاسي جامعاً للتراث الشَّعبي، وآخرون ينظرون إليه باعتباره كاتباً شعبيَّا يهتم بأمور العامَّة وطرائفها، وثمَّة من قد يرى فيه مخترعا لأحداث وحكايات يكسوها بهالة شعبيَّة. وواقع الحال، إن في التجربة الكتابيَّة المعاصرة لسلام الرَّاسي ما يدعو إلى مزيد من التَّأمُّل والتفكُّر فيها، عبر ما كان من تجربة الجاحظ في العصر العبَّاسي؛ لتكوين مزيد من الفهم لفلسفتها وأسس جماليتها ثم لفهمها بعمق وتطويرها بما قد يساهم في إزالة هذه الحال العربيَّة المعاصرة من النخبويَّة المحدودة في الإقبال على الكِتاب والتَّفاعل الحقيقي مع المكتوب، وفي نفي هذه الغربة التي يعيشها كثير من المثقفين والمفكرين والأدباء العرب مع الجمهور العربي!
1-الإشارات الى هذا الأمر كثيرة جدا في معظم كتابات “سلام الراسي” ومنها على سبيل المثال لا الحصر و منها ما جاء في كتابه “أقعد أعوج و إحكي جالس” مؤسسة نوفل ،بيروت، الطبعة الأولى ١٩٩٦ ص ١٥
2-الراسي” ثمانون ” ص ٢١٥
3-الراسي “أقعد أعوج و إحكي جالس ” مؤسسة نوفل ، بيروت، الطبعة الأولى ١٩٦٩ ، ص ٢٠٢ ،٢٠٣
4-الراسي “الحبل على الجرار ” مؤسسة نوفل ، بيروت ، الطبعة الأولى ١٩٩٨ ص ٧
5-إعتمد الراسي هذا القول “شعارا ” لكتاباته يظهر في غلاف الصفحة الأولى من كل واحد من كتبه بشكل تعريف للأدب الشعبي .
6- الراسي حكى “حكي قرايا و حكي سرايا ” مؤسسة نوفل بيروت ،الطبعة الأولى، ١٩٧٦ .
7- الراسي،”حيص بيص ” مؤسسة نوفل ، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٣ .
8- الراسي “الحبل على الجرار ” مؤسسة نوفل، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٨ ص ١٩٧ .