أدب وفن

تاريخ يدق عليَّ الباب

حنان شبيب

تاريخ يدق علي الباب


لقد دق عليَّ الباب فأغرقني !
الثاني من كانون الثاني ( يناير ) 1492م
نعم دق عليَّ هذا التاريخُ الباب، وأنا حُبلى بأوجاعٍ تخطّت كل المواعيد، حملٌ أرهقني والمخاض طال!!
لعلها الكتابة، والكتابةُ عندي في أحايينَ كثيرةٍ تشبه الولادة، وإني أراها هذه المرة قيصريةً؛ فلن تتمَّ الولادةُ دون تدخلٍ جراحي !
الذكرى سقوط الأندلس! أ أكتب عن الفردوس المفقود؟؟ عن أي فردوس؟ وعن أي مفقود ؟ كثُرت الفراديسُ المفقودة فلا أحصي لها عدّا! ياه…..إنّ تساقطَ الأندلسات ما زال مستمرًّا، طال هذا المسلسلُ كثيرًا – يا عزيزي- واشتدت قسوتُه، واسودّ ظلامه، وابيضّت عيونُنا من الحزن، وبتنا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك ….فهل اقتربت القافلة؟ وهل سنجد ريح الخلاص؟ تساقطتُ في حضنِ اللاوعي، و قررت أن أكتب؛ اشتد عليّ نزف الذاكرة، ودخلت في طقوسٍ التصوُّف الكتابي.
فهل سأستطيع القيامَ بها بكل تجلياتها؟
اشرأبّت أعناقُ الذاكرةِ رغم صعوبة ما تمرُّ به، وقادتني إلى سنيّ دراستي الجامعية في الجامعة اللبنانية ….وأستاذِ الأدب الأندلسي؛
لمَ كان فخورًا وهو يحاضر في هذه المادة ؟ هو لم يكنْ يعلِّمُ مادة …إنه كان يبني أشياء داخل نفوس الدارسين، أمضى سنواتٍ في إسبانية قبل الحصول على الدكتوراه….كان يشعرُنا بأنه يحضِّرنا لعرسٍ كبيرٍ وفريد، أعدَّ له عُدتَه بيديه وبفكره وبماله.
كان يحبُّ ما يعلِّم، لقد التحمَ جيدًا بالأندلس؛ عرف كل تفاصيلها، غنّى لها وفيها، ورقص على أنغام زرياب ….جلس في مجالس عشاقها ( حكامًا و محكومين ) واستمع لولّادة في إشبيلية وهي تنشدُ شِعرَها، وعتب على ابن زيدون و رثى لحاله…
حلّق مع عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، ومحمد بن أبي عامر …..كانوا أذكياء، لا بل عباقرة، إنها شخصياتٌ لا تقاوم .
على أصابعه وعلى وجهه تجدُ رسومًا لمسجد قرطبة و قصر الحمراء و….و…. كان هذا الأستاذُ العاشق يفرك كفّيه، كأنه يريد أن تخرجَ الأندلسُ من بين أصابعه كي نراها ….وإذا كان من المستحيل أن ينقلَ طلابَه كلَّهم عبر أجيالٍ مختلفة إليها، فإنه كان يرى إمكانيةَ أن ينقلَ الأندلسَ إليهم !!!


عندما وصل إلى سقوطِ غرناطة نبّه إلى ضرورةِ انسحابِ الطلاب الذين لا يملكون قلوبًا قادرةً على مقاومةِ الصدمات؛ من العرس العظيم إلى السقوط المروّع….
ولقد كنت من المنسحبين، لكن أصداءَ عبارته التي كان يرددها على مسامعنا ( دخل العرب المسلمون الأندلسَ عاشقين و لم يدخلوها فاتحين ) ما زالت ترنُّ في أذني وفي آذان الجامعة اللبنانية .
هكذا كان يقول:
مظاهرُ عشقِهم ما زالت شاهدة، في كل مكان هناك تطلُّ عليك وتلوِّحُ بكلتا يديها مرحبةً، واحد منها أشجارُ النخيل التي تغزَّل بها عبدُ الرحمن الداخل 2
ويا لهيبته!! صوتٌ يهزني ….اخلعْ نعليك، واسجدْ و اقتربْ، فثمَّ وجهُ الله!!
إذا تعذَّرَ السجودُ بالأجسام فلتسجُد الأرواح.
خلال تجوالِنا في أستاذِ الجوامع ( جامع قرطبة ) تعلمتُ الكثير؛ تعلمت كيف أنَّ الحبَّ يبدعُ
ويعمِّر، وكيف يسوِّدُ الحقدُ الجمالَ و يطمس مظاهره، كنت أبحث عن الأربعمئة ألف مجلد في مكتبة الجامع التي قرأت عنها وما وجدتها! وخزتني الذاكرةُ قائلة : ألم تقرئي أن الحقدَ أحرقَ جُلَّها؟! بلى …وتذكرت كيف اسودت مياهُ دجلةَ من كثرة ما رمى المغول فيه من الكتب المحروقة…..الحقدُ هو الحقدُ في الشرق و في الغرب .
لقد وقف الملكُ الذي أمر حاقدًا بتغيير معالم المسجد نادمًا بعدما رأى ما اقترف بحق عظمة المكان، الذي قيل فيه إنه أعظمُ ما بنته يدُ الإنسانِ عبر التاريخ!!
وظلِلْتُ في حالة سجود روحي، حتى خرجتُ منه، لكنه لم يخرجْ مني…..ودَّعني وودعتُ على بابه في صحن النارنج ؛ الزهراوي، ابن باجة، ابن طفيل، محمد الغافقي، ابن عبد البر، …..و….و…. الذين تخرَّجوا في مسجد الأساتذة (مسجد قرطبة ) وعلّموا العالَم.
خرجنا من قرطبةَ متوجهين إلى غرناطةَ بالسيارة …. لقد شاهدت على أطرافها؛ الزهراء، وصبحٌ، والحَكَم. طَوال الطريقِ كنت أسمع صهيلَ الخيول، لا أعرف لماذا احتل سمعي !!
في مدخلِ الحمراء تجمَّعُ العالمُ…أرأيتم كيف يجمعُ الجمالُ و الحبُّ العالم؟!
هذا الصغيرُ ( أبوعبد الله محمد ) الذي سلّم غرناطةَ كان صغيرًا حقًّا …..فعندما كنا كبارًا مَلَكْنا ….وعندما صغُرنا مُلِكنا، و الفرقُ كبير بين الفتحة و الضمة على الميم؛ إنها فلسفةُ اللغة العربية، وفلسفة الاعتبار!
بمَ يكبُرُ المرءُ و بم يصغُر؟ الإجابةُ في إعادة قراءة التاريخ ….
وقرأت في صفحة الفضاء دهشةَ نزار قباني:
غرناطةٌ ؟ وصحت قرونٌ سبعةٌ في تينك العينينِ بعد رقادِ
دخلنا قصرَ الحمراء بعد وقوفٍ طويلٍ في طابورٍ عالمي، إنه ليس قصْرًا ….بل مدينة الحمراء التي يحج إليها العالم….ولا غالبَ إلا الله …و لا مغلوبٌ إلا من ضيّع الطريق إليه، فوقف باكيًا و هو يودِّع دنياه، أكان يبكي دنياه فقط؟
كلُّ ما في هذا المكان يذكِّر بتاريخٍ عظيم؛ الزخرفات التي كاد نزار يسمع نبضها، والزركشاتُ التي سمع نداءها!!


وطارق بن زياد الذي ودعه و هو مغادر!!
أماكنُ غادرناها، ولكنها لن تغادرَنا ما حيينا.
لقد عرفتُ كيف يمكن للزمان و المكان أن يحتلّا الإنسان ويتحكما بخط سيره العاطفي والفكري.
لقد طرق عليّ الباب ذلك التاريخ، ففتحت له، و لكنه أبى أن يبارحَني….. فترك الباب مفتوحًا، و الجرحَ مفتوحًا؛
و من جرحٍ إلى جرح، ومن ترْحٍ إلى ترح، ومن أندلس إلى أخرى، فهذي القدس ….وهذي دمشق ….و هذه بغداد، وهذه صنعاء ….وهذي عدن …. وغيرها وغيرها.
كل هذا السقوطِ نراه رأيَ العين دفعةً واحدة ( أعني سقوط الكيانات لا سقوط المدن )
والأسبابُ هي هي، و الدروس هي هي، ونحن كما نحن لم نتعظ! كأننا لم نقرأْ يومًا .

ذات يوم ….صرعني تاريخٌ على أرض الواقع !!!!
و ها أنا ألوح بيدي و أقول: عندما نعيشُ دون أحقاد يصبح الكونُ أحلى….كانت الأندلس معادلةً كونية عجيبة وخالدة من الجمال و الأناقة، و الفن والحضارة بكل مكوناتها وأبعادها، فلماذا يتكرر سقوطُها ولا يتكرر نموذجها ؟؟ سؤال حبذا الإجابة عنه!!

*شاعرة و أديبة لبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى