أدب وفن

قراءة في واحدة من مائيات جون هون سونغ الكوري الجنوبي

عمر سعيد

إن أصعب الألوان هي ألوان الوجوه، لأن الوجه الوحيد الذي يتضمن أبعاداً ومشاعر وانفعالات في ملامحه هو وجه الآدمي.
فإذا مات الجسد، كست الوجه قطيعة، ليس بمقدور أي منا أن يوصلها، وإن بانطباعاته الانفعالية.
وما التقاط المصور أو الرسام لصورة وجه إلا التقاط للحظة، فيها من العمق والاحتمالات ما لا يقبل الجزم والحسم، ويتركها مفتوحة على ما لا يحصى من تأويلات.
حين تتأمل اللوحات المائية لوجوه الرسام الكوري الجنوبي جون هون سونغ (1971- جولا- كوريا الحنوبية) تدرك معنى خطورة خلطة اللون بالملامح التي تنتج مزيجاً من انفعالات مبهمة، فالوجوه في عين الرسام الداخلية أبعد منها في الحياة اليومية العادية..

هناك.. في داخله تنفتح الوجوه على إشكاليات الوجود، والألم والحب والجنس والتعب والخوف وشهوة الحياة، وقل ما تشاء.
لا يرى هون سونغ الألوان على الوجوه، بل يراها في شهوة الريشة التي تعي باتصالها الأصيل فيه أين يغدو الأبيض بياضاً، وأين يغدو التيه تيهاً.
وفي هذه اللحظة المقتطعة من وجه أنثوي فتي أكثر من مدخل واحد، ونوافذ عدة تفرض علينا فهم التوازنات في توزيع ألوانه في هذا الوجه المائي.
فمدخل العمل هو الفم بشفتين، مالتا متعاكستين قليلاً، تفرجان بتراخي السفلى عن أحساس الأنوثة العميق، وارتفاع العليا عن إدراك هذه الأنثى لحضور الوجه الذي تملكه في الناظرين.
يزيد اللقطة توهجاً مثلث الظل الذي تعمدته ريشة الألوان تمده من طرف العين اليمنى( يسار الناظر) إلى طرف الكتف الأيمن.
مثلث تموجت ظلاله بين البرتقالي والبني الجذعي( جذع الشجر) إلى بني بين الصفرة والبياض، لينتهي رماديا فوق اتساع الكتف.

النافذة الأبرز بعد الفم هي حركة خصلة الشعر الوحيدة.
تقطع الوجه إلى شبه نصفين، بعث انسدالها على النصف الأيسر( يمين الناظر) الكثير من الإثارة، كثفها انحناء طرف الخصلة الممتد على اتساع القسم الأيسر من شفة الحب السفلى..
ومن المعروف أن الشفة السفلى هي مبعث الإثارة الجنسية في فم الأنثى..
لتترك ريشته مشحات بيضاء على الشعر في بعض أطرافه، تشكل نافذة أخرى تنبه الناظر إلى أهمية المرور فوق كافة المساحة التي يشغلها الشعر بألوانه التي امتدت على طولها من أبيض؛ يقنص النظر؛ إلى أسود داكن، يبعث السكينة.
من نافذتي العينين الخضراوين ربما، تسحبك ألوانهما إلى عالم داخلي ساهم، مجرد من أية إيحاءات جنسية، ألفت العيون نشرها فينا، عينان أتت نظرتهما باتجاه اليمين( يسار الناظر) قليلاً، لتحدث توازنا يخفف من ميلان الرأس بكله إلى اليسار (يمين الناظر)، ليؤكد بما تركه من فراغ أبيض بين الحاجب والعينين ذلك الداخل الجواني الساهم المفتوح على اللا تحديد.
ولئلا يصبح الأبيض الناصع في بعض اقسام الوجه والقميص حاداً منفراً، كان لا بد للريشة من ان تجعل خلفية العمل تموجات من ألوان تداخلت فيها تفاعلات الزمن من صفرة وتعفن وضبابية ودكانة، تؤكد جميعها بتفاعلها على قدوم هذه الأنوثة وهذا الشباب والجمال من بيئة، يثقل كاهلها ماض هزيل ليس فيه من المعاناة ما يكسر.
لكنه ماض يوحي بأن هذا الوجه ليس من وجوه البيئات التي تتقن فن الثراء والسلطة والسطوة.
لتظل سطوة هذا الوجه هي سطوة اللحظة التي سكنت هون سونغ، وارغمت ألوانه على الانتشار ابداعاً فوق قماش، يشي بقراءات، قد تجعل قراءتنا له أبعد القراءات عن أبسط أسراره.

*روائي، وشاعر لبناني

*جون هون سونغ رسام كوري جونبي من مواليد 1971 في جولا كوريا الجنوبية..
وقد انتشرت مؤخرا أعماله، وأعمال الكوري الجنوبي جونجون تشارلز الذي ينافسه في دقة الرسم والتصوير الواقعي، لكنه لا يدانيه في تصوير انعكاسات الانفعالات الداخلية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى