قطة مبتورة القدمين/ بقلم الروائي علي حسين عبيد
لي قريبٌ مغرمٌ بالمشاكل، مرةً قال لي إذا وضعتُ رأسي على الوسادةِ ليلا ولم أجدْ مشكلة تُشغلُني لن أحصل على النوم حتى الصباح!!، وإذا امتلأ رأسي بالمشاكل أنامُ ملءَ جفوني، أمرٌ غريب حقّاً، فنحن نعرف أنّ الإنسان السوي تقلقهُ المشاكل وتقضّ مضجعهُ، ولكن أن تأخذ به إلى النوم العميق، هذا ما لا نتوقعه، ولم نسمع به، كونهُ لا يتَّسق مع المنطق والمتعارَف عليه.
قريبي هذا جاءني في أحد الأيام، وهو لا يأتيني إلا عندما تواجهه مشكلة، وبعد أن سلَّم عليَّ ورددْتُ عليه السلام، قال لي: أنتَ أخي الكبير وليس لي غيرك.
عرفتُ أنّ وراءهُ مشكلة جديدة من العيار الثقيل!، قلتُ له: خير إن شاء الله، ماذا لديك؟؟
قال: ضربتُ زوجتي بشدّة وتجاوزتُ على أهلها بلفظٍ مسيء، فتركت البيت وولَّتْ هاربة وأخذت معها ابنتنا الوحيدة التي أعزَّها كثيرا.
قلتُ له: وما المطلوب مني؟
قال: تذهب معي إلى أبيها وهو يقدّرك كثيرا حتى تستعيد لي زوجتي وابنتي!.
فرفضتُ الذهاب معهُ وأخبرته بأنكَ غير موثوق بك، وسوف تعتدي على زوجتك مرة أخرى، أعتذر لك لن أذهب معك!!
أصيب بحالة من السخط، وظلّ يرجوني ويردد، أنا لا أحد لي غيرك، أنت أخي الكبير، ومع أنني أعرف بأنه قد لا يغيّر طبعه، لكنني تنازلت عن موقفي وذهبتُ معه إلى أهل زوجته بسيارته الجديدة آنذاك، أبدى لي احتراماً غير مسبوق وكثيرا من التملّق والتودّد، وفتح لي باب السيارة بنفسه، وهو يردد (الله يحفظك ويخليك لنا!!).
وصلنا إلى بيت أهل زوجته، طرقتُ الباب، خرج الأخ الأكبر للزوجة المعتدى عليها، رحَّب بي كثيرا وشدَّ علي يدي بقوة، فيما استقبل زوج أخته بتحية باردة وترحيب فاتر، كنّا في فصل الربيع والأشجار من حولنا، والنسيم عذب، جلسنا في فناء الدار، جاء الأب ورحب بي أكثر وسلم بفتور أيضا على زوج ابنته، وبعد حوار ونقاش وتبريرات واعتذارات، قال الأب سوف نعيد ابنتنا إلى بيتها احتراما لك أنت ونأمل أن تضمن عدم الاعتداء عليها من قبل زوجها، فأبديتُ التعهّد المطلوب، ثم قال الأب غدا ستكون في بيت زوجها.
خرجنا من أهل الزوجة ممتنين، وبدتْ معالم السرور واضحة في وجه قريبي الذي ظلَّ طيلة الطريق يشكرني، ويدعو لي بالخير، وحين سألتُهُ أريد أن لا تتجاوز على زوجتك مرة أخرى، هل يمكنك أن تعدني بذلك؟؟، أكّدَ لي بأنه لن يخطئ بحقها مرة أخرى، لكنَّ قيادته لسيارتهِ كانت تدلّ على أنه غير موثوق به ولا بكلامه!.
قبل أن نصل بيتنا بقليل وكان الوقتُ غروباً، عبرتْ من أمام السيارة قطة مسرعة، كان ضوء السيارة ينطلق نحو القطة، فجأة ضغط قريبي على دوّاسة البنزين فانطلقت السيارة كالسهم نحو القطة، إلا أنها تخلّصت في آخر لحظة من السيارة وقفزت إلى الرصيف، فصرخ قريبي صرخة أسف عالية (لا مع الأسف لم أنلْ منها)، استغربت بشدّة من هذا العمل الأهوج الذي قام به قريبي، وسألته ماذا فعلت لك هذه القطة الصغيرة كي تدهسها وتقتلها؟
أحداث القصة أعلاه جرت قبل سنوات بعيدة، وأنا ذكرتُها لكم الآن، لأن قريبي نفسه الذي كان لا ينام إلا على المشاكل، والذي كان يتجاوز على زوجته مِرارا، زارني اليوم مع ثلاثة من أبنائه الشباب، رحَّبتُ به وبأولاده بقوة، وجلسنا معاً في غرفة الاستقبال نحتسي العصير، كانت شاشة التلفاز تعرض عبر قناة بي بي سي عربي، ضمن برنامجها (ترندنغ)، فديو يتحدث عن تفاصيل عملية جراحية تم إجراءها لقطّة مبتورة القدمين الخلفيتين، تمّ تركيب قدمين صناعيين للقطة، وساعدتْها مربيّتها بصبر وحرص شديد على استخدام القدمين الصناعيتين جيدا، وشيئا فشيا تعلَّمت القطة السير على أقدامها بشكل جيد حتى أنها استطاعت بمساعدة مربيتها أن ترتقي سلَّماً يتكون من عدة درجات.
كنّا أنا وقريبي وأبناؤه الثلاثة نتابع وضع القطة، وكيف أُجْرِيَتْ لها عملية تركيب القدميْن، ثم كيف بدأت القطة تجرّب المشي عليها، وتابعنا بإعجاب ذلك الجهد الإنساني الكبير الذي بذلته مربية القطة كي تساعدها على السير مجدَّدا، وهو جهد يدخل في إطار الرفق بالحيوان.
هنا سألت قريبي أمام أولاده، هل تتذكر محاولتك لدهس القطة قبل سنوات بعيدة، وهل تتذكر كم تأسَّفت لأنك لم تستطع دهسها حين تخلّصت منكَ في آخر لحظة؟!!
قال متأسفا مع حسرة مؤلمة: نعم أتذكّرها جيدا، وأتذكر مستنقع المشاكل الذي كنتُ أغوص فيه، لكنني أحمدُ الله، تغيّرت كثيرا وتخلّصت من طباعي العنيفة، وعلَّمتُ أبنائي هؤلاء على الرحمة والرأفة بأمِّهم وبأنفسهم وبالآخرين، فالعنف وخشونة الطبع تجعلك مكروها من الجميع، حتى أقرب الناس منك ينفضّ من حولك، وسرعان ما تجد نفسك وحيدا، أما الهدوء والعفو والأعمال الإنسانية فهي وحدها من تمنحك محبة الناس، كما أنني قرأت كثيرا عن الرفق بالحيوان، وها أنا أعلّم أولادي على اللاعنف كمنهج دائم في إدامة زخم الحياة.