الإله العرَّاب/ بقلم الروائي محمد إقبال حرب
أنا خائف
نعم أنا خائفٌ جداً. لا أدري لماذا يجتاحني هذا الشعور هذه الأيام، كما لم يكن من ذي قبل. أعترف بأن الخوف يعتريني، بل يلازمني منذ أن بدأت ألوك الكلام وأستشف ما يسمّى أصواتًا باستغراب. كانت الأصوات في البداية أنماطاً متمايزة من ناعم ورخيم، إلى صادح وأجشّ. وعندما بدأ مخزون الأصوات يتماسك حروفاً، اتفق عليها أبناء البشر، لغة متداولة أصبحت الأنغام تتجلّى كلمات، والكلمات أضحت مفاتيح تدير مشاعري، وتستفزّ خيرها وشرَّها. هذه اللغة التي برمجني عليها البشر لأسمع وأستنير، لأفهم وأعبِّر، أخذت تتحوَّل تدريجياً إلى خيطان خوف تحيك الرعب ملاءة لا أستطيع نزعها. تحوَّلت هذه الخيطان مع الزمن إلى أسلاك شائكة ببطء، وثقة محيطة بكياني محذرة إياه من مغبة الخطأ والخطيئة.
هذا حرام، هذا خطأ، لا تفعل.. أوامر تتبعها صفعة للتأكد من إيصال صك العبودية. عبودية سلاحها الترهيب والتخويف. ولكي تستقر في العقل الباطن تَصدر الأوامر المقدسة من الأب والأم ورجل الدين، بل ما يقوله كل من هو أكبر منك سناً هو الحق والحقيقة. ألا تعلم أيها الطفل “بأن من يكبرك بشهر أعلم منك بدهر” حتى لو كان جاهلاً أمياً. اعلم أيها الطفل أن الرد على أيّن من هؤلاء حرام، التفكير في رفض ما تؤمر به حرام، التساؤل عن حقيقة الأشياء حرام، الحُب بكل أنواعه حرام، اللعب مع الجنس الآخر حرام… كل شيء حرام.
اسمع ونفَّذ أيها الطفل وإلاَّ… سيكون الله لك بالمرصاد، سيدخلك النار، سيحرقك، سيدق المسامير في كفيك بل سيرميها في حلقك… إياك وعدم الطاعة فأنت عبد الخوف دون إشعار آخر.
لوهلة دامت أعواماً، ظننت أن الله عز وجل لا هَمَّ له إلا الكي بالنار وتعذيب الأطفال، بل وضربهم بسلاسل من نار. وشغله الشاغل إرسال الأوامر لمنع الأطفال من اللعب. ولكن عندما كبرت وجدت أن الرسائل والأوامر تَنفُذ حتى إلى عمق الكبار الذين بُرمجوا على الطاعة.
اعتراني الخوف نوبات متفاوتة بانتظار العقاب، خاصة يوم كنتُ طفلاً عندما سرقت قطعة حلوى للمرة الأولى. اختبأت تحت السرير حتى لا يحرقني الله بالنار عقاباً. ويوم سرقت قلم زميلي في المدرسة، جلست قرب حنفية الماء لأطفئ ما يشتعل من جسمي. وفي يوم لعبت مع طفلة في المدرسة وخفت البوح لأمي كي لا تعرف خطيئتي فتلسعني النار من حيث لا أحتسب.
تعلَّمت أن الأقوال لا ترافقها أفعال، فيوم يمنعني والدي عن الكذب، أراه يكذب على من في سنه، وعندما أسمع الكذب على لسان الكبار أتفحص بشرتهم فلا أجد ندبات حروق. لذلك غششت في الامتحان، كما تجرأت ونظرت إلى وجوه وأجساد النساء دون إصابة. بدأت أتفنن في الكذب والسرقة على الرغم من هبوب رياح الخوف من أعماقي بين الفينة والأخرى. وعندما نضجت راودتني ذاتي أن أقتحم المجهول وأغامر، لكن لعنة الخوف تقيدني، برمجة الجبن مازالت تشكل سدًا منيعًا أمام طموحاتي. يرتفع منسوب مصل الخوف في كياني، كلما فكرت بالمغامرة، يبثّه طفل في ذاتي ما برحت ترعبه كلمة نار، تحبط عزيمة تفكيره للخوض والتجربة من أجل إنسان أفضل.
لكنني ذات يوم خفت المذلّة في عصر الانحطاط، قرّرت أن أرفض ما لا أريد، أن أواجه الظلم بالحق معبـّراً عن رأيي طالما أن الله لا يظلم ولا يحرق. وبما أن السماء ما زالت تحفل بهفيف النسيم، فلا بد أن يكون الله رحمن رحيم، وطالما أن لغة العصافير تخبرنا بأن السلام هو لغة الله، فلا ضير من أن أرفع صوتي بالحق كي أقول للحاكم الظالم المستبد “ستحرقك النار ذات يوم” بل قرّرت وقلت له:
“كفاك سرقة واستبداداً، كفاك قتلًا وفسادًا ونفاقًا”
“كفاك التبوّل في طعامي، سرقة أحلامي وأوهامي”
وكان الجواب أسرع من البرق. إذ وجدت نفسي من حيث لا أدري داخل سجن حقيقي لا معنوي، هزّني النعير المتواتر من زنزانات متقاربة، فوجدتني في قلب العاصفة أكتوي بسياط الجبروت وركلات الجند المأجور الذي ذكرني بأعضاء كنت قد نسيت وجودها. أشعلوا النار على جسمي بسياط التعذيب. وعندما صرخت محتجًا على ما لا أستحق من تصرفات لا تتناسب وحقوق الإنسان. صمت الجميع فظننتهم قد عادوا إلى رشدهم. فجأة أطلقوا العنان لتيار كهربائي أنار في كياني درب إله الخوف كدعوة للإيمان بإله العبيد الحي. إله التوازن والتعايش والفساد. إله المنافع والمظلات التي تحمي المجرمين والسيارات. آلهة تخدم كل الألوان الطائفية مختوم على جبين كل إله ختم الإله العرّاب للتأكيد على شرعية وقدسية صنمه المبجّل. يرتع كل إله في زريبة معبده حسب الرخصة التي حصل عليها ليدير مملكة الله من الباطن.
رفضت أن أغير معتقدي الذي رفضت البوح بسرّه لأن دروب السماء دروب المريدين الساكنين.
حكمت المحكمة بطوائفها “المتعايشة” بالإجماع: احرموه، اصلبوه، ارجموه واقتلوه وفي صلاتكم العنوه.
تزاحم العبيد بحجارتهم وسكاكينهم وصلبانهم في صفٍ طويل ينتظرون إشارة الإله الأكبر.
مدّ الإله العرّاب رأسه من كوّة في قصره وقال لزبانيته ادفعوا للرعاع ثمن خيانتهم لهذا الكلب الثائر.
أمطرت السماء أخضر فصلبوني قرابين أعيادهم ومعابدهم، ورجموني بحجارة المعابد التي يكرهها الإله العرّاب وحمدوا الله على نجاتهم من كفري.