إبحار على متن القصيد

قصيدة الشاعر حسن علي شرارة و قراءة وتحليل الدكتور علي مرعي
قراءةٌ وتحليلٌ قصيدة” غيمٌ على بدر الدُّجى” للشّاعر الدُّكتور حسن عليّ شرارة
توطئة:
“غيمٌ على بدر الدُّجى”، هيَ إحدى القصائدِ الأخيرةِ للشّاعرِ حسن عليّ شرارة، دبّجَها برُؤاهُ وفلسفتِه، وأسبغَ عليها من مَعينِ حكمتِه، وصفاءِ بصيرته، وغاصَ فيها عميقًا في اللّاوعي، ليُحوّلَ المشاهدَ الطّبيعيّةَ إلى لوحةٍ حيّةٍ تستنطقُ الذّاتَ الإنسانيّةَ، وتضعُها أمامَ تأمُّلٍ لا مفرَّ منه في الحياةِ والموتِ والمصيرِ والقَدرِ.
فالشّاعر حسن عليَ شرارة من الشُّعراءِ المُعاصِرينَ القلائلِ الّذينَ يُجيدونَ رصفَ الكلماتِ بما يُواتي غاياتِهم، فيُعيدونَ تشكيلَ الألفاظِ وقوْلَبَتَها؛ لتأتَي مِطواعةً لما يشاؤونه من أغراض. والقصيدةُ الّتي بين أيدينا تكشفُ، بصورةٍ لا لبسَ فيها، تلكَ القدرةَ الفريدةَ، والموهبةَ الخلّاقةَ، والقدراتِ الفذّةَ، الّتي تفجّرتْ على يدي شاعرِنا، وتفتّقتْ على لسانِه، فهو لا يكتفي بإعادةِ تشكيلِ المُفرداتِ على نسقِ مشاعرِه، بل يخلعُها خلعًا من المُعجَم، ويُلبِسُها سياقاً جديدًا، تغدو معهُ اللّغةُ ثريّةً وواسعةً وغنيّةً، وقادرةً على التّحليقِ في فضاءاتٍ جديدةٍ. وهنا تأتي كِياسةُ الشّاعرِ الحقيقيّةُ؛ إذ يقودُنا طوعًا لنتقاسمَ معهُ المشاعرَ الدّافقةَ، فهو يُوظّفُ هذهِ المهارةَ في جعلِ المفرداتِ سببًا يجسُر به المسافةَ بينَ الذّاتِ والمُتلقّي، فإذ بنا نعيشُ التّجربةَ الّتي قاساها الشّاعرُ، ونُحسُّ بأنّنا نتقاسمُ معهُ الحالةَ الشّعوريّةَ المفعمةَ بالحياةِ.
يستحضرُ الشّاعرُ مشاهدَ واقعيّةً من الطّبيعةِ (غيم- ريح- ماء- ليل- سحابة- عاصفة- أمطار- عندليب- صُبح)، وفي الآنِ ذاتهِ، يُدمجُه في حقلٍ دلاليٍّ آخرَ من مشاعرِ الحُزن والشّجا (غياب- كآبة- وحدة- نجوى- شجا- لظى- عذاب- سُود- شقاء). وبينَ الحقلينِ يُطلّ حقلٌ آخرُ هوَ حقلُ الحُبِّ والهُيامِ (يُغازل- غياب- القلب- حبيب- شهد- الغرام- صبابة- أمنيات- يحنّ- يتوق- مُهجة- تهيم- أنغام- الوجد..).
وكأنّ الشّاعرَ هنا يجعلُ الحُبَّ في منزلةٍ بينَ المنزِلتينِ، فتارةً ينسحبُ إلى فضاءِ الطّبيعةِ ليتماهى معها، اقتِفاءً لنهجِ الشّعراءِ القُدماءِ، الّذينَ توحّدوا بالطّبيعةِ، واندمجوا بعناصرها، وانمزَجُوا بدقائقِها، وتماهَوا مع أجزائِها. وتارةً أخرى يزلُّ باتّجاهِ الحُزنِ والألمِ ومُقاساةِ الوحشةِ والوحدةِ والانقِطاعِ. وهنا تبرزُ المشاعرُ المتناقضةُ الّتي تفيضُ بها الذّاتُ، الّتي تترنّحُ بينَ الأملِ والخوفِ، وبينَ الرّجاءِ واليأسِ، وبينَ الوحدةِ والانعتاقِ. وهذا هو دأبُ الشّعراءِ الأفذاذِ، يُدخلونَك في دوّامةِ مشاعرِهم، ويتركونَكَ تُلملُم شعثَ المعاني، وتجمعُ أجزاءَها المتناثرةَ على حدودِ الكلماتِ.
لقد أبدعَ الشّاعرُ في انتِخابِ الكلماتِ الرّقيقةِ الهادئةِ ذاتِ الوقعِ الخفيفِ، والجرسِ اللّطيفِ، الّتي تفتحُ أفاقًا لامتناهيةً من الدّلالاتِ والخَيالاتِ (غيم- ريح- ليل- صبح- شهد- حنّ- سحاب- شدو- روح- لحن- طيف- جوى..)، فكلُّها ألفاظٌ خفيفةٌ رشيقةٌ على النّطقِ والسّمعِ، تنجذبُ إليها النّفسُ وتعيشُ معَ رموزِها ذاتِ الطّاقةِ التّفجيريِّة العاليةِ من المضامينِ الحسّاسةِ.
ولكنْ دعونا نتأمّلُ كيفَ لشاعرٍ أن يوظّفَ هذهِ العناصرَ؟ ولنُدقّقَ في الآتي:
الغيم: مُتراكبٌ. الرّيح: الرّيح الجموح. الليل: يُسدل عارضيه، عاصفة، أمطار.
هذه الصُّور تتراكم لتُهيّئ المشهد الذي يرسمه الشاعر للقارئ، مشهد العاصفة الدّاكنة، تُلقي بوابلٍ من الأمطارٍ، تصحبها رياحٌ هوجاء جموح فائرة، وسط ظلامٍ داكن يُخيّمُ على المشهد، وكذلك على النّفس.
ثمّ تتابع المشاهد لتصل إلى الذّات:
أنا رهين كآبتي: القلب: يرنو للحبيب. قلم: يُهدهد للكتابة. الحبر: حبر الأمنيات. العقل: يُلحّ بالسّؤال. روحي: تنشد الصّبح.
تتابع هذه المشاهد الحزينة، التي تُلقي بثقلها على ذات الشّاعر، وتفصِح عن المعاناة التي يُكابدها ويُقاسي همومها وشجونها، فهو متفرّد بهذه الكآبة، قلبه يرنو للحبيب البعيد، قلمه ينزف، عقله حائر، حبره جفّ إلّا من بقايا أمنياتٍ أشبه بومضات خاطفة تأتي على عَجَل، وروحه تتثاقل من الألم، وتتطاول لتنشُد الصّبح، علّه يُسعفُها ببُشرى تلملم أحزانه، وتُعيد ترتيبَ ما شظّتْهُ الأحداث.
ويُتقنُ الشّاعرُ العبورَ بنا عبرَ التّراكيبِ، فتارةً يُنسّقُ الألفاظَ في جملٍ اسميّةِ؛ ليُشيرَ بها إلى ثباتِ هذا الواقعِ المُفرِط في الأحزانِ ( اللّيل عاصفة- رؤى مُدبّجة- الشّعر شدو..)، وتارةً أخرى يُسهبُ في الجملِ الفعليّةِ، ليحملَك على تصوّرِ الأحزانِ الّتي تتجدّدُ مرّةً بعدَ أخرى في حركيّةٍ صراعيّةٍ لا تنتهي ( يُغازل الرّيح- يريق نجواه- يروي نسغ- يلحّ عقلي- تهيم روحي- تحزّ بالأنغام- يجلو شقائي..). ويُحسنُ الشّاعرُ شرارة كذلكَ رصفَ هذهِ الكلماتِ في صورةٍ كُليّةٍ تستدعي الحواسَّ الخمسَ، وتصهرُها في ذاتيّةٍ عجيبةٍ غريبةٍ، فالغيمُ يُغازلُ الرّيحَ، واللّيلُ لهُ عوارضُ يُسدلُها، واللّحنُ يُزقزقُ، والأنغامُ تحزُّ الأوتارَ، واللّحنُ يجلو الشّقاءَ..) فكلّها استعاراتٌ استحضرتِ الخيالَ في دفقاتٍ سُرياليٍّة غيرِ مألوفةٍ، وربّما غيرُ مطروقةٍ سابقًا.
ولكنْ، برغمِ ثقلِ الأحزانِ الّتي تنضحُ بها القصيدةُ، إلّا أنّ الشّاعرَ يعرفُ كيفَ يستجمعُ قواهُ من جديدٍ، ربّما ليُوحيَ للقارئِ أنّه ليسَ بهذا الضّعفِ الّذي قد يتوهّمُهُ أو يتصوّرُه، فيُطلقُ دعوةً ختاميّةً للعزفِ على ألحانِ الوجدِ، فهي الكفيلةُ بطردِ شعورِ الشّقاءِ والوحدةِ والكآبةِ والانقطاعِ، فكأنّ الشّاعرَ بهذا يُشهرُ عدمَ استسلامِهِ لما حاقَ به من أحداثٍ وأحزانٍ وآلامٍ وأنواءِ.
ختامُا، ولكي لا أطيلَ عليكم، القصيدةُ جميلةٌ جدًّا، ومعانيها ثريّةٌ وغنيّةٌ وواسعةٌ وسابرةٌ، وأنصحُكم بقراءتِها وتأمّلِها وتذوّقِها، وإلى لقاءِ قريبٍ إن شاءَ اللهُ تعالى.
الدّكتور علي مرعي
غيمٌ على بدرِ الدُّجى
متراكبٌ يُرخي إهابَه
ويغازلُ الرّيحَ الجموحَ
بماءِ مُزنتِه
ويُلبسُها ثيابَه
واللّيلُ يُسدلُ عارضيْهِ مدًى
ولا يُنهي غيابَه
وأنا رهينُ كآبتي
في وحدتي
والقلبُ يرنو للحبيبِ
يريقُ نجواهُ على شهدِ الغرامِ المُرِّ
يُسرفُ في الصّبابَه
وشجًا يُقيمُ على جوانبِ خافقي
فيحنّ من أنّاتِه
قلمٌ يهدهدُ للكتابَه
والحبرُ حبرُ الأمنياتِ يتوقُ
يروي نسغَ ريشتِه
بأنداءِ السّحابَه
ولظًى يُلازمُ مُهجتي
ويشكّ في أنياطِ قلبي المُستهامِ
جوًى حِرابَه
والليلُ عاصفةٌ وأمطارٌ وإلفٌ غائبٌ
ورؤًى مدبّجةٌ بمنوالِ الرّتابَه
والشّعرُ شدوُ العندليبِ
بلحنِ دهشتِه يزقزقُ
كي يقصَّ لنا عذابَه
ويلحُّ عقلي بالسّؤالِ
وليسَ تقنعُه الإجابه
فتهيمُ روحي تنشدُ الصُّبحَ المُكلّلِ بالنّدا
وتحزُّ بالأنغامِ أوتارُ الرَّبابه
ما حِيلتي غيرُ الشّجا
لم تُبقِ لي سودُ اللّيالي من رجا
فاعزفْ بلحنِ الوجدِ
ما يجلو شقائي والكآبَه
حسن عليّ شرارة