أبواب اليقظة / بقلم الروائي محمد إقبال حرب
أغمضت عيني مرتحلًا من حيث يزهو عشقي، إلى حلم يتجلّى رغم بُعده. امتطيت صهوة أيامي فرسًا أصيلًا فطار بي بعيدًا، بعيدًا، حتى غشيني النعاس فأغمضت عيني برهة لأستريح. وإذ بالحصان يلقي بي وسط غابة تتوسطها فسحة كبيرة يكسوها ربيع غامر. سقطت هناك خائفًا من ألّا يكتمل حلمي. وما أن صحوت من صدمتي حتى سرت وحيدًا في مسارات الحديقة، متشبثًا بالخوف والأمل. فجأة، ومن دون سابق إنذار بدأت استشعر عبقًا، غريبًا، جذّابًا يتسلل إلى مجسّات سعادتي. عطر نفذ إلى أعماقي وكأنما يدرك متاهاتها. مزيج من الند والعنبر يرافق زهر الربيع وضوع الغابة. يبثني بين الفينة والأخرى نفحات أنوثة تثيرني كما لم يحدث من قبل.
أخذتني دهشة الفضاء الساكن بلحن الطبيعة الذي بدا كمسبار خفي يتغلغل كياني فشعرت أنني جميل. اخترقني المسبار برحيق أنثوي نفّاذ فشعرت بحوّاء من حولي، فتواضعت حد البكاء. جلست على الأرض أرسل مجسّاتي البشرية لتهديني السبيل. داهمني ما ليس بالحسبان، موجة مشاعر متسارعة اقتحمتني كعدو خبير بتحطيم دفاعاتي فسقط مُلكي وحملتني الريح على بساط الدهشة إلى هناك.
هناك حيث المعبد، تقدِّم أزهار الأوركيد قرابينها مع مدٍّ لا ينتهي من أزهار وورود جاءت من أقطار الدنيا حاجَّة إلى رمزٍ ما، لم أتبينه بعد. بدأ طقس المغرب بحنين البرودة يداعب أوراق الشجر. حفيفها نغمات تتماهى مع خرير ماء السواقي التي تحيط بمتكئ لم أرَ منه إلا تموجات غدائر كستنائية تنسدل متماوجة مع عرائش الياسمين. تزاحمت العطور في فضائي حتى استولى عليّ ضوع أنوثة جبار.
ها هي تغاريد العصافير تناجيني، وتدعوني أن أقترب بابتهالاتي إلى حيث هي. سرت ببطءٍ على بساط الشوق وجلًا حتى بدا جسدها المتناسق ينير دربي بنوره. كانت منسدحة بسكونها تتدثر ببتلات الزهر فتبدو تقاطيع جسدها تموجات مغرية تشيح عن منحنياتها كنوز أنثاها. تتراقص حولها أكاليل الجوري وباقات الفل في طقوس مقدسة تبارك جمال الروح وسحر الجسد. توهجت فجذبني مدارها إلى حيث تتجلى. شعرت بشيء يسبر كياني، مشاعر تقتحمني، تغسل أدراني، تفكك سجل عمري بسكون جلل. تجسدت أحلامي بأقسى درجات جنوني حتى أخذني عنفوان المدار في رحلة أذهبت حقيقتي التي أعرف فسقطت من علياء إلى حيث هي. سطع إغراء شفتيها الارجوانيتين بدعوة اللقاء فافترتا عن بسمة مغرية ارتعدت لها فرائصي. خدها الأسيل نور يضيء جسدها الحريري بلون الخجل. رمقتني بلحظها من عينين جمعتا أساطير الدنيا سحرًا. أخذت أغوص في بحار عينيها، بينما أقترب من أناملها، أتمسك بهما خوفًا من سقوطٍ ثانٍ لا أعرف وجهته.
هل سأغرق في عينيها؟ أم سأذوب بين شفتيها؟ أم ستأخذني في لذّة أزلية في حضنها ترويني حديثًا عن حبٍ أتعلمه في لذّة لم أعرفها بعد؟
رمقتني بنظرة اقتحمتني كسهام عدو شرس بينما تعدّل من جلستها. قلت لبيك سيدتي.
قالت: أنت في بلاد النقاء، حيث تسقط الشهوات.
قلت: لكنك حلمي الذكوري المتجسد.
قالت: ها هنا، أرض مقدسة، تراتيلها مزامير الجمال المطلق.
قلت مستغربًا: متى كان لقاء حبيبين قدسية تمنع لقاء الأجساد؟
قالت: الحب الصافي لا يختلف في كينونته، فمحبة الذكر والأنثى والجماد واحد. حب من أجل الهيولى الكونية، كي تتشكل نقاءً إلهيًا. فلتندمج روحانا في عالم النقاء لنستشعر لحن الوجود.
قلت: لكنني أريد شريكة ودّ بشرية.
قالت: عُد من حيث جئت قبل أن تبقى عالقًا في صحراء الوهم.
قلت: لقاء الأجساد ليس وهمًا، بل هو الحقيقة المطلقة بين الذكر والأنثى، فمشاركة اللحظة قدسية تذيب كينونة العاشقين في كيان أزلي.
قالت: لو كان ما تقول حقيقة لما تفرق العشاق وتخاصم الأزواج. في عالم النقاء تندمج الأرواح في عشق لا تدنّسه الشهوات فتنعم بالأزلية.
قلت: كم أنت كاذبة؟ لماذا إذًا تبثين أنوثتك في كياني؟ لماذا تتأوه شفتيك إغراء؟ بل لماذا أنت عارية بجسدك الثائر، صاخبة المنحنيات متوهجة المشاعر؟
قالت: ليتك تفهم بأن كل ما تراه ما هو إلا تجسيد لأحلامك البعيدة عن حقيقتي. ما أنا إلا روح هائمة تحت دوحة قديمة تنتظر روحًا نقية تعانق وحدتي في لقاء أزلي.
لم أستجب لها، بل لم أصدقها قط. اقتربت منها بغريزتي الذكورية، فتلاشى المكان حتى صمّني الفراغ
القاتل في حلم أُغلقت أبواب يقظته.
محمد إقبال حرب/شاعر و روائي