مدد يا مولانا …قصة قصيرة بقلم الكاتبة هند زيتوني
مدد يا مولانا
دخلت بقدمها اليمنَى إلى الغرفة الصغيرة ، تنتظر قارئة الفنجان ( فاتحة المندل ) (كاشفة الشر )
وجالبة الخير والبشائر السعيدة .عشر سنين عجاف ، مضت من عمرها وهى تنتظر الحمل ، لتسعد زوجها ، وتثبت له بأنها ليست شجرة جافة كما تزعُم أمّه ، وقطعها حلال .
كانت تحلم بيومٍ يتكّورُ فيه بطنها ، لتنجب ، لتصبحَ أماً . لتناغي طفلها وتلقمه ثديها .. لتشتري له لعباً جميلة .
ثم تراقبه وهو يحبو ويكبر وينادي : ماما وتجيبه هي : ياروح أمك ، ياعمرها كله …!
وليغنّي لها في عيدها عندما يكبر ويصبح شاباً : (ست الحبايب يا حبيبة) … ويقدم لها هدية جميلة . ويقبّل يدها ويقول : ارضي عليّ يا أمي .!
جلست بكسل ،وقد شعرت بالتعب والإرهاق .
بدأت النساء تتدفق إلى المكان ، لكل امرأة
مشكلة تريدُ حلّها . وتأمل أن تعود إلى منزلها وقد نالت ما تريد .
لم يكن هناك في غرفة الانتظار التي كانت تجلس فيها ، سوى القليل من الإثاث .. بعض الكراسي المهترئة و بساط أحمر ممدود في الوسط وقد تآكلت خيوطه ،واتسخ ببعض البقع ،وطاولة خشبية مستديرة ، تبدو قديمة قد بهت لونها ، وُضعَ عليها بعض الكتيِّبات الصغيرة للأدعية ..
كان هناك إبريق نحاسي فيه بعض الماء وبجانبه بعض الأكواب البلاستيكية . في الوسط ..الدخان يتصاعد من مبخرة نحاسية صغيرة . تتصاعد معه زفرات النساء الشابات وتنهيداتهن ، كنّ يجلسن على الكراسي صامتات . ينظرن في أنحاء الغرفة وينتظرن -مثلاً أن ينشق الجدار ليخرج عملاق كبير يحقق الرغبات ويأتي بالعجائب ليقول : (شبيك لبيك أنا عبدك بين يديك ) يسألن أنفسهن بحرقة ومرارة : هل تتحقق الأماني ؟
هل سيحصل المطلوب ؟ أم إنّ القصة كلها كذب وادِّعاء ؟
ماذا لو تحقق المراد ؟ وفتحت السماء أبوابها وشاء القدر أن يأذن بالفرح ليأتي ؟
والسعادة أن تقدم بعد طول غياب .؟
ماذا لو تجمّع الغيم فجأة في سماء القرية وهطلت الأمطار لتروي عطش الانتظار الطويل ؟
البعض يعرف ، بأنّ المعجزات تتحقق أحياناً والاعتقاد بالأمل والعمل الدؤوب يفتح الأبواب المغلقة .. فتأتي الأماني مثل فجرٍ جميل ، أو كشمسٍ دافئة بعد شتاءٍ طويل .
على كل حال ، الكلام ممنوع والثرثرة محرّمة في تلك الغرفة المباركة ، كما قيل لهنّ قبل الدخول : لا للفساد ولا للنميمة .
كانت الشابة الصغيرة ، شاحبة ، ترتسم على ملامحها الحيرة والخوف واليأس ، تسأل نفسها : هل ستكون الشيخة الجليلة قادرة على تحقيق هذا الحلم ؟
هل ستستطيع أن تمنحها الطفل الذي طال انتظاره ؟
ستدفع خمسين ألف ليرة دفعةً واحدة ، وعندما يحصل المراد وينتفخ بطنها ، ستدفع المئة ألف ،
وإلاّ فسوف يغضب مولانا ، رئيس الجن ، وسيبعث بجنده ليعاقبوا الشخص الذي أخلّ بوعده ،
ولَم يدفع ، وعندئذٍ سيقع البلاء والعياذ بالله ، وربما يحرق القرية ومن عليها ، وربما يحصل طوفان وتُصاب المدن كلها والقرى بالقمل والدم ..!
هكذا قالوا لها منذ البداية : ” الذي أولّه شرط ، آخره سلامة ”
دخلت أم ناجي الغرفة ، يفوح منها رائحة المسك والبخور ، تختلط برائحة جسدها الأنثوي ..
كانت امراةٌ بدينة ، غامضة الملامح كانت تقول : دستور ، دستور يا سيد الجن بركاتك …! اكشف الضر وحقّق المُراد لهذه المرأة وستفي بالنذور ، دستور … دستور بركاتك ياسيدي…
نفثت في المنقل الذي يحتوي الفحم ورشت عليه بخوراً جديداً وتمتمت وغمغمت وشهقت، واستعاذت من الشيطان ، ثمّ بصقت في محرمةٍ بيضاء . أخذت تثرثر بصوت باهت : هيّا استعدوا ، استعدوا ، وحققوا كل الأماني وأحضروا الغائب وردوا الضائع لأمه وحافظوا على السرائر ..
وبدأ الرجال في الخارج بقرع الدفوف وقول : الله حيّ ، الله حيّ مدد ، مدد ..
اقتربت من المرأة الشابة وأخذت تتأملها بعمق ، ثمّ أردفت : بصوتٍ خفيض : متى اقترب منك بعلك يا …. ؟ وهل تخافين من الوصال ؟ وكم مرّة يطفئ نارك في اليوم ؟
أجابت الشابة بخجل : اسمي أماني ، لقد تمّ الوصال في الأسبوع الماضي ، أنا لا أخاف أبداً
وأنا الآن معذورة.
انتفضت أم ناجي واستغفرت و شهقت : وصرخت : لا لا هذا الكلام لا ينفع أبداً ضعي المبلغ المعلوم واخرجي فوراً ، أستغفر الله كيف تأتين وأنت معذورة ؟
لقد أفسدتِ الجلسة وخرّبت حلقة الذكر ..لقد هربت الملائكة وذُعر الجني الصالح .! الذي كان سيساعدك ..
اذهبي الآن وتعالي على طهارة ، هذا المكان طاهر ونظيف ،الأسياد لن يستمعوا لي أبداً وأنت بهذه الحالة ، الطهارة ، الطهارة الكاملة .. انتظري سبعة أيام واغتسلي ثلاث مرات وسبّحي ثلاثاً وهللّي ثلاثاً واحمدي ثلاثاً ، ثمّ تعالي متعطرة بكامل أنوثتك وجمالك ، لتنالي المراد بسرعة عجيبة .
هزّت المرأة رأسها وتأسفت ودمعت عيناها من الخوف ، قائلة : لو كنت أعلم أنً الأمر هكذا لأتيت الأسبوع القادم ..
لا بأس ، أجابت أم ناجي : حصل خير يا شابة ، أنا بالانتظار …
كلّه بأوانه ، لا تستعجلي أبداً ، هذه الأمور الحساسة تحتاج التخطيط ، والصبر ، والانتظار وصدق النيّة والدفع في الوقت وستحصل العجائب .
سأحضّر الفرقة الطاهرة أوسنعمل حلقة ذكر طويلة وسترقصين قليلاً مع المنشدين وبعدها ، تخرجين من هنا وقد حصلتِ على طلبك ، لكن لاتنسى إحضار ثلاث دجاجات ، وديك رومي وخروف صغير . ليس من أجلي ،، هذا كلّه للأسياد ،أنا لا ينوبني سوى الأجر ، كلّه لله .
أجابت : حاضر .. مضى أسبوع كامل، كانت أماني تنتظر على أحرّ من الجمّر ، وقد حضرت كلّ ما طُلبَ منها ، وجهزت سرير الطفل الذي صنعه زوجها بنفسه من الخشب الرخيص .
أجلْ .. الطفل قادم والأفراح قادمة ، فبعد تسعة أشهر سيحبو الطفل ثم سيركض وسيملأ البيت
بالضجيج ، وربما سيمنع أهله من النوم ، وسيسهرون معه ، ولكن كلّ ذلك لا يهم سيتحملون كل تلك المشقات بصدر رحب ، وستسقيه أمًه كأساً من البابونج إذا حلّ به المغص أو أصابه القلق ، ستغنّي له : نام ،نام لاذبحلك طير الحمام . اشترت الأم الملابس لوليدها القادم ، ونظفتْ بيتها الفقير المتواضع ، وكأنَّ الطفل سيأتي في الغد …
الزوج يريد صبياً يحمل اسمه ، ليتباهى أمام رجال الحيِّ .
وزوجته تنفّذ كلّ ما يطلب منها بالحرف الواحد .
هكذا أقنعتها أم ناجي أن تكون نيتها سليمة ، ورغبتها صادقة واستعدادها سريعاً ؛
ليحصل المراد، وتتحقق الآمال ،وتأتي السعادة التي تأخرت عشر سنين …
جاء المنشدون وداروا في الحلقة ، وقرعوا الدفوف وعلت الأصوات ، وارتفع الدخان ..
وجاءت أم ناجي الشيخة ، المباركة ، التي حملت على يدها أكثر نساء القرية وأصبحن أمهات بجدارة ، يحملن أطفالهن ويمشين مرفوعاتِ الرأس .
كانت ترتدي جلباباً أسود وتضع أحمر شفاه بلون فاقع ، تجمع شعرها الكثيف بربطةٍ سوداء . وهي تمضغ قطعة اللبان بكسل . .
وتدورها بفمِهاا تارةً إلى اليمين وتارة إلى الشمال ..
وقد تدلّت أقراطها الذهبية الكبيرة من أذنيها … تبتسم وتتمايل من فرط سمنها والشحم الذي تكتنز به أردافها …
اصطفّت النساء العقيمات وهن يسبحنّ ويدعون ويتمتمن … قالت إحداهن : أنا خائفة جداً ، وقلقة ؛
لقد بعت كل الذي “حيلتي ” من أجل الإنجاب .. لو لم أحبل ، فإن زوجي سيطلقني فوراً ،
وسأخسرُ كل شيء … لا أعرف كيف سأعود لأهلي ؟ ربما يقتلونني لو طلّقني ، وعدت إليهم بعد عدة سنوات من الزواج ؛ سيحسبون أنني ارتكبت الفاحشة والعياذ بالله ، وأنا أطهر من الطهر …
قالت الشابة التي تقف بجانبها : اخرسي أيتها الحمقاء .! كفي عن هذا الجنون ،
كيف تتجرئين وتقولين مثل هذا الكلام ؟ هل أنت غبية ؟ ،
سيسمعك سيد الجن وستفسدين كل شيء ، وسيرفض مساعدتنا .. كيف تتهمينه بالكذب وقد
ساعد نصف نساء القرية وهن ينعمن بأمومتهنّ الآن … والرجال يعيشون بسعادة وهناء مع
أسرهم بفضله .
ساد الصمت من جديد . واعتذرت الفتاة للأسياد وطلبت السماح والمعذرة والغفران ، عن قولها الذي خرج منها بدون قصد . سبحّت وهللّت واستغفرت .
نادت أم ناجي على أماني . فتقدمت وقد تهللّ وجهها بالفرح لأنها اصبحتُ متيقنةتماماً من قدرة تلك المرأة التي سوف تجعلها أماً .
– ادخلي إلى الغرفة ، بقدمك اليُمنَى وقولي
” دستور ” سبحًي وهللّي واستغفري …ثمّ اشربي العصير كلّه ، واسترخي على المقعد ليقرأ عليك سيدنا ( أبو المعارف ) ويشفيك من العقم ، ويزيل عنك النحس وقلة الحظ . ويثبّت حملّك ، لتخرجي
وقد طُرحت فيك البركة والذرية الصالحة .. لتنعمي بالسعادة الدائمة .
دخلت المرأة شربت العصير واستلقت على ظهرها . وجاء الشاب الفتي الذي نفخ على وجهها قليلاً وكبّر وهلّل وطلب العون من الأسياد واستدعى رئيسهم قائلاً : هذه المرأة استسلمت لقدرتك وسلطتك العجيبة ، بعد أن فقدت الأمل بالأطباء الدجَّـالين ، وأضناها الانتظار ..أمنحها ما تريد يا مولانا ، وستكون لك من الشاكرين ..
غفتْ الشابة ، وقد حلقّت بحلمها وهي تحمل طفلها وتناغيه … ثمّ قام بمهمته التي كان ينتظرها بفارغ الصبر ، وأفرغ ما فيه من ماء الأشواق و رماد الاحتراق …
خرج مسرعاً وقد علَاه العرق ، وهو مقطوع الأنفاس ،، وهو يردّد مدد ، مدد..ياسيّد الجن أغثنا ببركاتك وثبّت حملها … لقد أزحنا عنها سوء الحظ ومنحناها البركة الدائمة ..
نادت أم ناجي يلي بعده …! كلّه بأوانه …! يا صاحب الملك تهب من تشاء إناثاً وذكوراً
كل النساء سيحملن اليوم بإذن الله . القادر ، الوهاب ، الكريم ، لن يدع أنثى عاقراً في هذه القرية .
الله حيّ … اقرعوا الدفوف وصلوا على النبي …! صلوا على النبي ، وأهله الأبرار لتنعموا بالصغار .. هيا استعدوا وقدموا النذور لتعمّ الفرحة والحبور ..
مضت السنوات وتحققت الآمال وفرحت النساء ، وشعر الرجال بأنّ رجولتهم النائمة استفاقت وفحولتهم حققت المعجزات بسبب بركات أم ناجي .
، كثر الأطفال في الحارة وامتلأ بيت أم ناجي بالدجاج والخرفان والديوك والسمن واللحوم ..
وفرح الآباء المحرومون من الأبوة ، فقد اصبحوا آباءً شرعيين . يرسلون أطفالهم إلى المدرسة ليصبحوا حكاماً ووزراء ، ورجالاً ناجحين ، ويعتَلُون مناصب عالية …
، ويحكمون الوطن السعيد الذي يرفل بالفقر ، ويحيط به البيوت الصغيرة التي تتداعى سقوفها يوماً بعد يوم … والتناسل مازال مستمراً …..!