أدب وفنمجتمع

الوقت من التبذير الى التدبير

الأكاديمية و الكاتبة نجاة بنونة

الوقت من التبذير الى التدبير

دقات قلب المرء قائلة له        إن الحياة من دقائق وثوان

جميل هذا البيت لكن اجمل منه حكمته وعمقه فضلا عن نبل هدفه  ! فالحكمة التي يحملها في طياته هي تلك الساعة التي  بداخلنا ونحن عنها غافلون ! نحن ننام وهي لا تنام ! والهدف منه تذكيرنا بنعمة الوقت . “وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين “.

ان الوقت انفس ما يملك الانسان ! فهو غير قابل للتعويض او التسويف او الندم . واذا كان المال ، وهو أحب نعمة عند الانسان ، موضع حرص شديد وسعي جهيد ، فان الوقت يقتضى منا ان نكون اكثر حرصا عليه واكثر اجتهادا في حسن تدبيره لان خصائصه غير خصائص المال ومهما كانت طبيعتها .

تحضرني بعض المقولات الحكيمة عن الوقت اذكر منها لا على سبيل الحصر : يقول الحسن البصرى رحمه الله :”انا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنم منى فاني لن اعود ” اما خامس الخلقاء الراشدين عمر ابن عبد العزيز رحمه الله فيقول :”ان الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما .” ولواقتصرنا على هاتين المقولتين لصح في تأليفهما مجلدا لما يحملان من دروس وعبر .

أما المثل الغربي” TIME IS MONEY ”  فإنه ،وانطلاقا من فلسفتهم المادية ، يساوى بين الوقت والمال وله عدة دلالات منها  العمل ،الإنتاج ،الربح ، والرخاء المادي ولواعتبرنا هذه النظرية ، فإننا بالشرق ، سنقر بأن عدد الأغنياء يفوق عدد الفقراء لأن الوقت منحة ربانية لم يستثن منها أحدا ؛ ولكنهم أغنياء فقراء يستحقون الشفقة لأنهم لا يقدرون تلك الثروة التي قد تضاعف رصيدهم المادي والروحي في آن واحد . أما بالغرب بصفة عامة واليابان بصفة خاصة ، فليس لديهم فقراء يستحقون الشفقة لأن احترام  وحسن استغلال الوقت عندهم ثقافة  بل سلوكا واضحا في حياتهم اليومية كوضوح الشمس .الوقت عندهم ، ومهما ضؤل ،لا يهدر على الإطلاق !عزيزي القارئ  ،لابد وأنك لاحظت ذلك بنفسك عند انتظار القطار أو الحافلة أوحتى في الصف عند شباك التذاكر لدور السينما ،أوالمسارح أوالمتاحف، ترى الناس منهمكين في قراءة الجرائد أوالمجلات أوكتب الجيب غير عابئين  بما يدور حولهم . وهم بهذه الطريقة يجنبون أنفسهم عناء الانتظار (أو القلق الناتج عن الانتظار) باستغلال تلك الأويقات  أوأحيانا اوقاتا فيما يغذى عقولهم  ويزكى نفوسهم ويريح أعصابهم ويحلق بهم في عوالم الخيال الحالمة  بعيدين كل البعد عن عالمهم الحسي والمرهق . وما موقف الفرد من الوقت إلا نابع من تقدير الدولة للوقت بحسن  استغلالها وحكمة تدبيرها ، وتحسيس الرأي العام بقيمتها ومردوديتها ، والنتيجة واضحة في الرخاء المادي والنمو الاقتصادي والتقدم العلمي والرقي الفكري والثقافي والإبداعي . وهكذا حققت المعجزات : مثلا على صعيد التقدم العلمي فان خلايا البحث العلمي ، والتي تشتغل كمنملة ، تتابع عن كتب ما جد واستجد في المجال العلمي ، وتصدر كل دقيقتين مقالا علميا مع ما يتطلب هذا العمل من جهد واجتهاد وتضحية وتحيين وتجديد ، لان العلم يتطور بسرعة البرق ولا يعرف الاستقرار أبدا ! ولو تقاعس الإنسان واكتفى بما خلفه السلف ما حقق الخلف هذا التقدم العجيب ، ولا تطورت حياته بهذا الشكل البديع!

أما على المستوى الفكري والثقافي والمعرفي ، فإن الغرب ،  وشعورا منه دائما بقيمة الوقت ، فانه أسس كذلك خلايا للترجمة  والتأليف ودور النشر ليتيح لشعوبه التعرف على مختلف الثقافات ، وتوسيع مداركه وتنويع  آفاقه المعرفية فضلا عن مواكبة الحركة الثقافية والأدبية العالمية . وكل هذه الاستراتيجيات تصب في جودة استغلال الوقت وحتما  تنعكس إيجابا على الفرد بصفة خاصة والمجتمع بصفة عامة .

لقد أصبح عندهم الوقت سلوكا حضاريا مألوفا حتى اقترب من التقديس ! ولو جرت الأمور في أعنتها ،  لكان العالم العربي  والإسلامي أولى بهذا السلوك لأن الله تعالى قدس الوقت ، فأقسم بها لعظمتها وجلالها كما نقسم بالله لعظمته وجلاله :” والعصر …والفجر وليال عشر …والضحى …”

لكن للأسف الشديد، لا نقيم وزنا للوقت ولا نستغلها في النافع الممتع غير مدركين فوائدها ومنافعها المتعددة الأبعاد ، بل تبدو وكأنها عدوا لنا  نسعى لقتله  بالتسكع في الشوارع  وهدره بالمقاهي في الكلام الفارغ أو مشاهدة المسلسلات والأفلام التافهة والتي لا تتناسب وقيمنا وثقافتنا وأعرافنا الأصيلة والنبيلة (وهذا موضوع يتطلب مقالا لوحده).

ولكم أعزاءي  القراء بعض المعطيات الصادرة عن الأمم المتحدة تثبت الوضع المؤلم بالعالم العربي .

إن المواطن العربي لا يقرأ إلا ربع صفحة سنويا بمعدل 6 دقائق بينما معدل الغربي يبلغ نحو200 ساعة سنويا . أما الطفل العربي فإن متوسط القراءة الحرة لا يتجاوز بضع دقائق مقابل 12 ألف دقيقة للطفل الغربي . والأمر بديهي ، فالإنسان ابن بيئته . فالطفل الغربي ينشأ في بيت يعتبر الكتاب جزءا لا يتجزأ من أثاث البيت  ، والقراءة عادة مألوفة قد تصل الى حد الإدمان ! وما أجمله من إدمان ! فتنمو معه هذه العادة  حتى تصبح عنده ضرورة ملحة لا يمكن الاستغناء عنها . ( وبالطبع فان التكنلوجيا قد أثرت بشكل سلبي على هذه الظاهرة الصحية للأسف الشديد . لكن لدي إحساس بأن الغرب لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا التراجع بل سيفكر بجدية وحزم في استرجاع هذه العادة الجميلة .)

أما بالعالم العربي فثقافة الكتاب شبه منعدمة ،ويهدر الوقت في أنشطة غير نافعة ؛ زد على هذا نسبة الأمية المهولة التي يعانى منها الوطن العربي والإسلامي  والتي  تشكل عائقا في الإقبال على القراءة ؛ (وهنا أتحدث عن الأمية الأبجدية والتي أصبحت غير مقبولة في القرن الواحد والعشرين ) على الأقل  بالنسبة لهذه الفئة فعذرها مقبول ؛ أما  فئة أمية المتعلمين (وأنا لا أعمم بالطبع) الذين يجحدون منافع القراءة الحرة والذين يقتصرون على ما تقدمه المدرسة جاهدين في  التحصيل المحدود الآفاق مستغلين أوقاتهم فيما يضرهم على المستوى الصحي والخلقي والثقافي  والعلمي فلا عذر لهم ؛ ولو أدركوا قيمة الوقت واستغلوها فيما ينفعهم لعاد عليهم وعلى أسرهم ومجتمعاتهم وأممهم بالخير الوفير .

أما على المستوى الاقتصادي،  فإن الإحصائيات تفيد أن عطاء الانسان الأوروبي اليومي يتجاوز 7 ساعات مما ينعكس إيجابا على الدخل القومي ، بينما تفيد التقارير الرسمية أن عطاء الانسان العربي والمسلم لا تتجاوز 30 دقيقة . وهذا أمر واضح للعيان في التماطل الإداري وعدم احترام وقت المواطن ،  حيث يعانى من ضياع الوقت عند طلب خدمة إدارية بصفة عامة (إنني أكره ما أكره الذهاب لأي جهة  لطلب خدمة إدارية ) . ويبدو أن هذا التماطل أصبح وباءا أصاب عدة قطاعات منها مجال الطب  مثلا :  نلاحظ أن الطبيب ( وهو أدرى بقيمة الوقت ، لأن دقيقة واحدة قد تضاعف أعراض المرض أو تقرب المريض من الموت ) أصبح غير مبال بالوقت جاعلا المريض أسير مزاجه ولا يقدم أدنى اعتذار عند التأخير عن الموعد والذى قد يبلغ أحيانا ساعات ! ونفس الشيء بالنسبة لوسائل النقل فهي لا تأخذ الوقت في الحسبان أبدا ، وكأنما المواطن لا شغل له إلا الانتظار!!!!!

كل هذه الأرقام المخيفة ،  والتي تقيد عجلة التطور ، ما هي إلا حصيلة عدة أسباب مرجعها إلى سياسات غير مستبصرة ، غير عابئة بقيمة الوقت بدءا بالأحزاب السياسية . فلو أن كل حزب سياسي وظف أوقات فراغه للتفكير  في برنامج اجتماعي وأعده إعدادا علميا دقيقا : ففكر كيف يرقى بالفلاح حتى يعيش عيشة كريمة بتزويده بالماء الصالح للشرب والكهرباء والمسكن اللائق وتعبيد الطرق وتوفير المدارس والمستشفيات  و..و..و…لساهم في نهضة البلاد الصناعية بتعليم هذا الفلاح ليصبح اكثر إنتاجا  ، لأن الفلاحة منبع من منابع الثروة ببلادنا استهلاكا وتصديرا  والأمية تقيد هذه التنمية للأسف الشديد  ؛ و لقلص  كذلك نسبة   العاطلين  نتيجة تكوين لا يتلاءم مع سوق الشغل وحاجيات البلاد  …وهكذا ، لوكان لكل حزب رأي يؤمن به يتقدم به عند الانتخاب ، ويترجمه على أرض الواقع  بدون تردد عند توليه الحكم ، لتقدمنا خطوات الى الامام . ومن باب الإنصاف، والعقلنة ، والمرونة  لن نطالبه بحل جميع المشاكل ، ولكن سنطالبه بعلاج  الأمراض الاجتماعية  الأساسية  بالعمل الجاد والمثمر في ورش الأمية  مثلا أو البطالة أو التعليم . فتزداد ثقتنا به  ونكون  له ممتنين ومشجعين . وعن جد ، كنا نأمل أن الحزب الحاكم  بمرجعيته الدينية سيحقق شيئا من هذا القبيل ،  بناءا على التعاليم الدينية من جهة ، والتفاعل من طرف الشعب ،لأنه بسليقته المفطورة على الدين،  سينخرط في العملية الإصلاحية بحماس وإخلاص ؛  لأن تلبية الدعوة الدينية أسرع وأقوى من تلبية الدعوة المدنية . لكن للأسف الشديد  لم يتم ذلك ، وأرجو أن يتقبلوا منى هذه الملاحظة بصدر رحب ،  وليوقنوا أنه لا باعث لها إلا حب الخير لهم وللناس .

أما  فيما يخص التعليم ، وهو مجال جد حساس وحيوي ، ففي رأيي المتواضع لا ينبغي أن يكون موضع مساومة أو خلاف حزبي، ولكن يجب ان يكون القائمون  عليه غير منتمين وواعين بثروة الوقت  لبناء مستقبل واعد وآمن بزرع القيم النبيلة ،  بدءا بتحسيس الطفل منذ أولى مراحل تعليمه  باحترامه وحسن تدبيره ؛ و تقديم النموذج العملي اتجاه الوقت في شخص المربي والمسؤولين الآخرين . والنتيجة الحتمية : هي أفراد متعلمين يقدرون الوقت بمواقف مسؤولة وسلوكيات حضارية  تستنهض  القيم السامية وسن العادات الجميلة والمثمرة بحسن تدبير الوقت في الأنشطة المفيدة ، لأنهم بتقديم القدوة  الصالحة داخل أسرهم  وفي الساحة العامة  ،  سيساهمون وبشكل كبير في دفع عجلة التطور بسد ثغرات الدولة التي تحتاج لهذه القوى كي تصل إلى بر الأمان . ولا أقوم  ولا أفضل من تربية عسكرية (أو شبيهة بالعسكرية ) تعمم في البلد لأننى استوحيت هذه الفكرة من الطلبة العسكريين الذين كانوا ينضمون الى صفوف الطلبة المدنيين لاستكمال تكوينهم بمعهد الإحصاء والاقتصاد التطبيقي INSEA RABAT  . فهم النموذج في احترام الوقت والالتزام بالمواعيد ، النظام ، الانضباط و المردودية فضلا عن خصال أخرى كالأدب ، الاستقامة ، الاعتدال ، الحيوية الإرادة القوية ، الاستعداد للعمل بحماس ونشاط والإصرار على بلوغ الهدف بكل ثقة . وجل هذه المواصفات نتيجة تقدير الوقت . ولدي إحساس شبيه بالإيمان ،  ان هذه التربية ستضمن تكوين أجيال صالحة ونافعة ومتطلعة لوطن يكون في طليعة الأمم الراقية ؛ لأن التربية الصحيحة والسليمة ينتج عنها حتما  التقدم والازدهار .

إذن بعد رصد هذه المعطيات المرتبطة بهدر الوقت وانعدام الوعي بقيمتها ، وهذه النبذة المختصرة عن عواقب سوء استغلالها لنفكر جميعا (وأدعوكم  بكل بحرارة  ان تشاركونني في هذا الأمر الملح لأنني أعتبره غاية في الأهمية وأحد أسباب تعطيل شؤون الأمة ) في حلول عملية قد تخفف  من وطأة هذه الآفة التي  قد تجر البلاد والعباد الى الهاوية .

انه وضع مأساوي ، ولا يمكن السكوت عنه لأن في ضياع الوقت ، ضياع الأعمار وضياع حياة الإنسان ، والتي بسببها غذونا في ذيل القافلة، لأننا نبدع في هدر الوقت بخلق الذرائع لتبرير مواقفنا ألا مسؤولة وألا واعية  ؛ مع أن حرص أسلافنا على الوقت مكنهم من حصاد  علم نافع استمد منه الغرب لمواصلة المسيرة العلمية ، وحضارة راسخة الجذور باسقة الفروع ألهمت الأمم في بناء حضارتها وباعتراف المنصفين من مفكريها وعلمائها (إقرأ كتاب للعالمة الألمانية سيكريد  هونك  SIGRID HUNKE “شمس الله تسطع على الغرب “). وحضارة العرب GUSTAVE LE BON .

واسمحوا لي  بسرد قصة جميلة وملهمة عن الوقت قبل اقتراح بعض الأفكار (ولا أدعى لا المعرفة ولا الحكمة ) وهي وليدة تجربة قد تكون مصدر إلهام لبلورة حلول ناجحة وناجعة تغير موقفنا اتجاه الوقت فنتصادق معها . وما أحوجنا لصداقتها ! وما أجداها من صديق !!!

هناك بالهند ، وهي بلاد معروفة بالحكمة وتعدد الثقافات ، يحتفلون بالعيد المئوي كل سنة في أحد أقاليمه باستضافة إمرأة  ورجل تجاوز عمرهما مائة سنة للحديث عن تجاربهما في الحياة ، ليفيدوا الجمهور العريض الذي يستدعى لهذا الغرض . ثم يقوم خطيب لتقديم الخلاصة . ولكم خلاصة أحد اللقاءات اخترتها لكم أعزائي القراء لارتباطها الوطيد  بقيمة الوقت لعلها تنزل منزلة اهتمام واستحسان في نفوسكم الزكية .

يقول الخطيب :إن حياة المرء مجموعة من الأيام معدودة ومحدودة ، وخيرها أنفعها للمرء ومحيطه . ان الخلود غير وارد والفناء واقع لا محيد عنه، وكلما تقدمنا في السن ازددنا تمسكا بالذكرى وخصوصا تلك التي تملؤنا فرحا واعتزازا بالنفس عند ترك بصمة عصية على النسيان . ولا أجمل ولا أسعد من العمل الصالح ! فطوبى لمن أحسن استغلال وقته في عمل ينفع في الدنيا ويشفع له في الآخرة !  وويل لمن بذر وقته وبدده دون عمل يذكر ! ولو أدرك الناس هذا المآل لكان الناس أسعد بالا وأرغد حالا .

والحكمة من هذا ، أن سلامة الخلق هي أكبر وأعظم ثروة في حياة الإنسان بدليل أن الله تعالى قال لرسوله الكريم :”إنك لعلى خلق عظيم “. إن حياة الإنسان لا تقاس بكمية السنين ولكن تقاس بكمية العطاء ، وحكمة هذا اللقاء تثبت أن حياتنا لا تتجاوز 4 أيام .  

1  يوم مفقود :  وهو اليوم الذى ضاع منا بدون عمل ينفع ( وما أكثر هذه الأيام في حياتنا للأسف الشديد !

2  يوم معدود: وهو اليوم الذى فزنا به،  لأننا قمنا فيه بأعمال نافعة تعود علينا وعلى أمتنا بالخير (وهي قليلة في حياتنا !)

3  يوم مشهود : وهو يومنا الحاضر يجب الاجتهاد فيه حتى نجعله يوما معدودا                                                            

4  يوم مورود :وهو غدنا : أيكون مفقودا أم معدودا ؟

والآن أعزائي القراء ،  لكم تصوري المتواضع  لاستغلال الوقت بما ينفعنا في حياتنا وحتى بعد مماتنا بعد عمر طويل إن شاء الله حافل بالأعمال الصالحة والأحداث السارة .

يقول سينا محمد (ص)” إن المؤمن القوي أحب عند الله من المؤمن الضعيف ” والمثل المعروف :”العقل السليم في الجسم السليم “والحكمة الحديثة تقول :”الرياضة تعارف ، ممارسة ، وأخلاق “. كل هذه المقولات تصب في اتجاه واحد : هو أن شروط الصحة الجسدية تنمي قوة إرادة الإنسان كما تزرع فيه القيم النبيلة وتقوده الى تحكيم العقل الذى خلق للتأمل والتدبر ، كما  توفر له استقرار المزاج الذى يؤدي به الى التوازن ويميل به الى الاعتدال في شؤون حياته وتساعده أيضا على بناء جسر التواصل مع الآخرين لتطوير الذات.

وأول شرط هو ممارسة نشاط رياضي بانتظام ، وهذا السلوك يفرض وبصفة منهجية أسلوبا معينا في الحياة، بدءا بالانضباط عند الاكل  ، بتبني حمية سليمة يتحكم فيها العقل ، فيكبح جماح الشهوات التي تسبب أضرارا جسيمة للإنسان تفقده حيويته ونشاطه ( لأنه أتلف جسمه بالإفراط فأصبح معطلا،  إن لم يتطور الى الأسوأ فيصبح عالة على الآخرين) . إذن بالاستبصار وقوة العزيمة والقناعة ، ندرك ضرورة تخصيص وقتا معينا للرياضة وبصفة قطعية لا تراجع فيها ولا تنازل عنها، وبأي ذريعة ومهما كانت طبيعتها . وانطلاقا من  تجربتي الصغيرة ، عليكم اختيار الوقت المناسب حتى لا يتداخل مع مهماتكم الأسرية  والمهنية  ، وهكذا يصبح الإنسان أقل عرضة لعدة أمراض قد يصاب بها من سوء التغذية اوأعراض صحية لصيقة بالتقدم في السن.

هذا على المستوى الجسدي، أما على المستوى النفسي ، فإن الرياضة تكسبنا مزايا نتطبع بها، ومع الوقت تصبح طبعا ؛ أذكر منها على سبيل المثال :الصبر الجميل ، قدرة التحمل ،  التسامح ، ضبط النفس ، الثقة بالنفس ،الحماس للخير والعمل بجد ونشاط ،الابتهاج بالحياة فضلا عن الاعتدال والتوازن  وكسب مهارات التواصل . وكل هذه الفسيفساء من الخصال الحميدة ، تجعلنا أكثر عطاءا وأكثر حبا للحياة ومصدر طاقة إيجابية ترسل أشعتها ،  فتنير الطريق أينما حلت وارتحلت !!! ملاحظة صغيرة : أريد أن أنبه من يرى فيها ممارسة موسمية (وأقصد شهر رمضان لتبرير تناول مختلف الأطعمة عند الفطور )أن يغير هذا السلوك ويعوضه بممارسة الرياضة كنشاط أساسي  وبنمط ثابت لا تستقيم حياتنا إلا به كالأكل والنوم .

وبعد الرياضة البدنية ، تأتي الرياضة الفكرية . ومن الأهمية بمكان ، أن نشير في الأول الى فائدتها العضوية . يعرف عصرنا الحديث   مرضا أصبح ظاهرة شبه مألوفة وهي مرض الخرف المرتبط بتعطيل وظيفة  الذاكرة وحتى بعض الأعضاء الحيوية في الجسم . اذن كوسيلة وقائية أولية  تقلل أوعلى الأقل تؤخر العرضة لهذا المرض ،  ممارسة نشاط فكري    بمصادقة الكتاب المنقذ من هذه الآفة بنسبة كبيرة . فسيولوجيا، تحتاج الأمعاء للطعام لأداء وظيفتها كما تحتاج خلايا المخ والذاكرة للتغذية للقيام بمهامها وبصفة دورية . وقديما كانت النظرية الشائعة تربط ضعف الذاكرة بالتقدم في السن ، فجاء العلم الحديث فأبطلها بتقديم عدة نماذج بشرية مسنة حافظت على قواها الفكرية والإبداعية كما لو كانت في سن العشرين بفضل أنشطتها الفكرية والثقافية والاجتماعية كالأم ترزا . فالقراءة الحرة المنتظمة تحافظ على سلامة الذاكرة وتضاعف حيويتها لأنها تكتشف عوالم مختلفة ومتنوعة المشارب وتجعلها أكثر اتساعا لاحتضان كمية من المعلومات والمعرفة  فتشجعها على طلب المزيد ، واكثر تواضعا لأنها  تدرك انه كلما ازدادت علما زادها علما بضآلة حجم رصيدها المعرفي ، فضلا عن المتعة التي تستشعرها من اكتشاف الجديد الممتع النافع .

هذا فيما يخص الذاكرة ، أما على  مستوى العقل ، فالقراءة  تجعله يتصل بعقول راقية وأعلم منه وقد تكون أيضا من مزاجه فيحصل ذلك الانسجام الفكري  والروحي والذى يأخذ بعدا إنسانيا يتجاوز الزمان والمكان ، فيستمد منه تلك الطاقة الإيجابية لتحقيق أحلامه . وهي بذلك ،  ترقى العقل وتميل بالنفس الى السمو فترفعها عن الدنايا وتجعلها والعقل أكثر تساؤلا  ومساءلة ومحاسبة وأكثر انفتاحا على الآخر واهتماما بالشأن العام  ؛ فيتسع الطموح وينمو التطلع لتحسين حاله وحال المجتمع الذي يعيش فيه . وهكذا يجيد التقدير ،  فيقدر نفسه ومن حوله  التقدير المعقول  ، فيصبح نشيطا ، منتجا ، فاعلا جمعويا متطوعا نبيلا لخدمة وطنه . ولن أبالغ ،إن قلت أنه يصبح إنساني النزعة يؤمن أن الفضيلة والأمانة واجب في كل زمان ومكان ومع أي إنسان . تحضرنى مقولة العالم البريطاني  JEREMY BENTHAM المعروف بالنزعة ذاتها :               

  ” قدم أكبر خير لأكبر عدد ” THE GREATEST GOOD FOR THE GREATEST NUMBER…

 ولن نكون نافعين الا بالعلم وسعة الاطلاع نتيجة القراءة الحرة .   ولأمر ما ، كان أول أمر إلاهي :” إقرأ ..”.

خلاصة القول ، إن الرياضة الفكرية لها منافع صحية رائعة تساعد على مواجهة الإحباط وحفظ التوتر وتقليص التعرض إلى الخرف ومنافع عقلية ، نفسية وروحية كتنمية الذات ، والاستفادة من تجارب السلف الصالح ، ومراقبة النفس لحملها على الأجدر والأنبل ورغبة شديدة في الإصلاح الاجتماعي مع صناعة رأي عام قوي وواع  وتهذيب الذوق العام .

أما الاقتراح الثالث لملء أوقات الفراغ والاستفادة منها بحسن استغلال ذلك الزمن الضائع الذي ينتج عنه الخمول الذهني والفقر العقلي والجمود النفسي : فهو الحديث إلى النفس . فالخلو إلى النفس بتخصيص لحظات_ وبصفة ثابتة _سواء في اليوم أو الأسبوع ضروري لاستعراض أعمالها وأفكارها  ونواياها ووضعها تحت المجهر لتقييمها وتقويمها قبل فوات الأوان .إن النفس أمارة بالسوء إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل . وبما أنها لا تفارقنا، ولو ثانية واحدة ، فمن واجبنا الجلوس معها والإنصات إليها حتى نتأكد من سلامتها . وإذا كنا نبحث ونستمتع بالرفقة الحسنة ، فأولى بهذه الصداقة  نفسنا لأنها هي التي تقودنا إما للصلاح والنجاح أو الانحلال والفشل  . ولولا أهمية وظيفتها ، ما ذكرها الله عدة مرات في القرآن ؛ وللتذكير فقط أعزائى القراء،  لكم هاتين الآيتين وهما غاية في الأهمية  للإنسان بصفة عامة  ومهما كانت عقيدته :” لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” “وأما من اتبع الهدى ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى” .

ألا تروا معي أعزائى القراء أن تخصيص بعض الوقت لمجالستها ومحاسبتها يعود على الفرد وأمته بالنفع الكبير والخير الوفير؟!   وفي  مجال المال والأعمال ، هناك ما يشبه الحديث إلى النفس على طريقة   SWOT . وهذه التقنية واردة في الخلو الى النفس وصالحة للفرد كصلاحها للشركات والإدارات .

اما الاقتراح الرابع فهو ثورة على العادات السيئة في التعامل مع الوقت . لقد اعتدنا بالشرق عدم ضبط المواعد بساعة معينة ، فتأتى مواعدنا على الشكل الآتي  :1  في الصباح …2  في العصر ….3  غدا …4  الاسبوع القادم …ولا من يصحح الوضع إلا في حالات نادرة  ( وبالطبع أنا لا أعمم ) ؛  فتبقى مواعدنا خاضعة للفوضى . وقد ينتج عنها قلق ، خلاف ، تعطيل عمل ما أو إبطاله …فضلا عن طيلة الانتظار … وفي كل الأحوال فإن هذه الفوضى تؤدي الى هدر الوقت . اذن كيف لأمة لا يهتم أفرادها بتنظيم الوقت ، وهوالحياة ، ان تستقيم أمورها فتتقدم ،  تنتج ، وترقى الى مستوى الأمم المتطورة ؟؟؟!!!

إذن لا أمل في التخلص من هذه الفوضى العارمة إلا بتصحيح موقفنا من الوقت ورد الاعتبار إلى الدقيقة والثانية . ويقتضى منا هذا الأمر : الصرامة والالتزام باحترام الوقت  حتى يصبح تنظيمه سلوكا مألوفا  لنرقى الى حياة يطبعها تنظيم الوقت واستثماره في النافع الممتع ؛ ويحل محل التخلف بسبب هذه الفوضى ، الرخاء المادي  والرقي الفكري والروحي.

اما الاقتراح الخامس،  وهو توظيف بعض الوقت في الإحسان لأنه يحيي فينا العواطف النبيلة من حب وحنان،  وينمى الإيثار إلى درجة التضحية،  فنرى أشخاصا وهبوا قسطا من  أوقات فراغهم  ليتقاسموا خبرتهم وعلمهم مع الآخرين ، شعورا منهم بمسؤوليتهم نحو أمتهم . وهم بتخصيص جزء من هذا الزمن لهذا العمل الجليل  يحيون ، يفرحون ، ينتجون ، يخففون من معاناة  الآخرين، يؤسسون مدارس ، مستشفيات ، ملاجئ ، يمولون أبحاث الطلبة المحتاجين ، يدعمون تعليم  أبناء الفقراء ، يزودون بعض المناطق بالوسائل الحيوية للعيش  ، يتطوعون لتقديم الخدمات الطبية لفائدة المحرومين  ؛ ونحن نقف لهم تقديرا وإجلالا!!

إن هذا السلوك الإنساني الراقي يجعل منهم أطباء اجتماعيين ، لأنهم خصصوا جزءا من وقتهم لعلاج الأمراض الاجتماعية ، كل حسب تكوينه واستطاعته . وهذا العمل ، وانطلاقا من تجربتي المتواضعة في مجال محاربة الأمية ولعقود من الزمن،  أسعدني سعادة روحية لا ثمن لها على الإطلاق  ومنحنى من الطاقة الإيجابية ،  ما ساعدني على مواجهة تحديات الحياة  ، كما ألهم محيطي بنهج مماثل وجنبني هدر الوقت وهو نعمة ربانية سنحاسب عليها يوم القيامة . جعلني الله وإياكم ممن استغلوا ويستغلون هذه النعمة أحسن استغلال .

اما اقتراحي السادس ،   THE LAST NOT THE LEAST   : وهو تخصيص جزء من الزمن للترفيه عن النفس ، عبر الموسيقى والضحك والبستنة  أو الرسم حسب أذواقكم وميولاتكم . أما الموسيقى والضحك ، فهما ضرورة ملحة لحياة هادئة وهانئة كما أثبتها أبو حامد الغزالي رحمه الله :” من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج وليس له علاج “.     

في الختام ، فالزمن الفارغ ، منبع من منابع الثروة  اذا دبر بإحكام وتعقل وطبعه الالتزام ، لأن الاستفادة منه متعددة الجوانب على الصعيد الفردي والجماعي.

ولا يجب أن تكون أوقات فراغنا طاغية على أوقات التحصيل بل خاضعة لحكم العقل  كأوقات العمل بالبرمجة  والتخطيط . إن لأوقات العمل غاية ، وكذلك لأوقات الفراغ غاية إلا قتل الوقت  فهي غاية غير مشروعة وغير حضارية  ، لأن الوقت هوالحياة . وباستطاعة كل واحد منا،  اذا أدرك قيمته أن يرسم خطة ناجحة لتدبير أوقات فراغه عوض تبذيرها فيما ينفع صحيا ،  عقليا ،  نفسيا وروحيا .

ولنتذكر أن حسن استغلاله بحسن  تدبيره عوض تبذيره  ،  قد يغير مجرى حياتنا  إلى الأفضل ويجعلها أقوم وأنفع وأرقى من السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى