عندما تناثر الجسد/ قصة قصيرة/بقلم الشاعرة حنان بدران
قصة قصيرة
عندما تناثر الجسد
ما بين زمنين ينسل طيفي الفضولي إليكم من العالم الآخر وأنا أشعر بقرارة ذاتي لا شيء أكثر مهانة من الصفعة التي لا ترد والرصاصة التي تتستر الضحية عليها أكثر من تستر القاتل، حتى تآمرت الأمة لإسدال ستارة الصمت والنسيان علينا.
حين وضعوا لي قنبلة موقوتة في تابوت سيارتي، كي ينهو سرير الكلمات ويتم وأدها ودفنها برحيلي، لكن المفاجئة كانت أن كل الكلمات بقيت على قيد النبض تبحث عن المكان الأكثر دفئا وتزحف في بقاياي ما بقيت الذاكرة والمطر.
كنت مشتعل الأصابع كالديناميت، ملتهب بأشواق المنفى، وقلبي كتفاحة دهستها شاحنات المتقاتلين فوق الرصيف الدامي في بيروت.
وأنا أعايش المقاتلين يغلون تحت شرفاتنا، ثم يزحفون فوق بياض أوراقنا تحت جلدنا يصنعون متاريسهم من أجسادنا، ويقصون أعصابنا حبال لهم، ويسلخون جلد أطفالنا طبول لحربهم.
كنت أخرج من رحم الكوابيس اليومية مغسولا بالدمع كرسائل العشاق.
لا أعرف كيف استيقظت فجأة… أخذت أدق بشدة على الجدار حتى فتح الحارس القبر فزعا وهو يتمتم بآيات من القرآن نظرت إليه فلم يرني لكنه سمع صوتي ورآني وأنا أتحول من طيف إلى إنسان أمامه، حاول لمسي لكن يده اخترقتني كأني دخان صاح فزعا وولى هاربا يهذي كالمجانين…
نفضت غبار الماضي عني وأنا أزحف بينكم فوجدت زمنا غير الزمان، لكن ما زلت مصرا على أن يظل ذلك الجسر المضيء من الكلمات ممتدا بيني وبينكم، رغم اختلاف وسائل التكنولوجيا الجديدة التي ظهرت بأيامكم، وفرحت لسهولة التواصل الاجتماعي الذي بات بينكم… فأول عبارة كتبتها بلا أوراق ولا قلم لم تكن أمامي إلا كغبار مضيء يتلاشى كبقايا السحب الضالة… فنقرت بأصابعي أول عبارة لي:
“انتظروني عند الطرف الآخر للجسر… واغسلوني بزيت المحبة الشافي، وقولوا لي يا غسان: كل موت وأنت بألف خير…”!!!
أعرف أني عدت بينكم في أكثر الأوقات العربية رداءة، وكل مؤشرات التي كنت أقرؤها بسرعة البرق توحي لي أن الطقس العربي الذي قرأته بعمق يشير إلى أن باروميتر الطقس العربي لا يشير إلى الصحو أو الاعتدال… وسألت عن قضيتي الكبرى التي ما زالت معلقة وبضياع بلاد العرب أدركت أنكم أضعتم البوصلة حتى ضعتم خلفها جميعا… فصعقت… ما زال الفجر كئيبا ورماديا…
بحثت عن الأصدقاء لأجد اقله من الأصدقاء والصديقات ما زالوا على قيد الحياة… واهتديت لصديقتي الأقرب إلي وهي تنصحني:
أرجوك لا ترتكب إثم الكتابة مرة أخرى… لأن خطأ التوقيت قد اختلفت مؤشراته الآن.
أجبتها:
لعلك على صواب ولكن أنا خائف يا صديقتي أن أقع في الصواب!
في زمن المهزلة رفضت أن أقع في الخطأ، فوجدتني أقع في الصواب…!
اتجهت برأسي نحوها: لكن يا صديقتي إن عدم الكتابة أيضا فعل خطأ فماذا على أن أفعل برأيك؟!
صمتت هي…
لكن لم اتردد كثيرا لاختار الخطأ الأقرب إلى حقيقتي.
قالت لي: عليك الآن إن تعايش العصر لتختار بين موت وموت آخر…
ابتسمت بمرارة فأنا طبيعتي لا أعيش تحت ذل رايات المفاوضات، التي تدعونها الآن “السلام…”
حسنا يا صديقتي: وأنتِ ترين أن فعل الكتابة مناف للأخلاق والتقاليد الكتابية السائدة، والتقاليد الكتابية الغابرة، هل علينا أن ننتظر زمنا طويلا حتى تنتهي القصة وتصبح ذكرى…!!!
فكم موتا احتاج إذا… لأموت حتى اوغل بالحداثة التي تركض للخلف فيكم…؟!
فاخذتني لثلة النقاد الاكاديميين، وقفت وسط الجموع بينهم متسائلا:
يا سادتي: هل توقيت الكتابة فعل مناف للأخلاق والتقاليد الكتابية الغابرة؟
أم علينا الكتابة عن “داحس والغبراء” أو عن “سفر برلك” لأننا توغلنا بالحداثة حرصا على اللمسة الكلاسيكية في الكتابة.
ودار نقاش طويل بيننا حتى قاطعتني الناقدة الفذة وهي ترتدي بزة من العصر الحديث لتقول لي:
نحن نقاطع (أدب الحروب) ونرفض القراءة فيه لرداءته التي تأكدوا منها- لكن دونما قراءة- وهتفت بثقة وبفخر- بوركت التقاليد الاكاديمية الحربية…!!!
وانا ادقق بالجموع خرج من بينهم أحد الكتاب الذين لا يكتبون الآن شيئا موجه الكلام بشكل مباشر لي:
“يا سيدي بنظري الآن كل ما يسطره الرفاق ما هو إلا انفعالات وظواهر تنفسية كردة فعل آنية كفقاعة صابون “.
بين شد وشذب قامت ثورة حرب في الاراء المتضاربة وأنا مشدوه تكاد تقتلني حربهم الكلامية ليخرج أحدهم من الذين يكتبون ويقول:
نعم صحيح نحن مازلنا نكتب على الجدار بخفر وحياء وخجل العذراى ينتاب كلماتنا المترددة والمغمسة بفعل الندامة!!
وأنا ادقق بحوارهم اكتشفت أن من يصمت يتهم بالتخلي عن المرحلة الحرجة، وإن كتباتهم يهدر الطاقة والتجربة قبل أنضاجها.
بذات الوقت لمحت من خلفهم صفوف جيوش لا تعد من الزعماء خلفهم يراقبونهم، فإذا النقد البناء لا ينصب إلا على رأس الادباء العزل، توكيدا لحريات الاعلام، وحمل شعارات النقد المرفوعة ترفرف بوقاحة في” مجال لزوم ما لا يلزم “، وحين نطقت بكلمة حق… ركض خلفي وهو يحمل سيفه هربا من نطق كلمة حقا في” ما يلزم “… ولحظة رأو السيف هرب الجميع حتى مهربو السلاح، القتلة، المحتكرين، مرتدي قمصان الشعارات في مهرجانات السرقة والذبح.
رغم أن صديقتي أقرت لي أن هؤلاء لا أحد يقترب منهم بالنقد لا الاكاديميون ولا أهل الاعلام، وخير كبش فداء لهم هو الأديب الذي…
(يموء ولا ينبح، يصرخ ولا يطلق الرصاص، يملك محبرة أليفة لا قنبلة يدوية وله صفحة ” الكترونية داجنة ” لا عصابة مسلحة).
نظرت إلى صديقتي بذهول: كل ما حدث الآن يدعو الأديب إلى الصمت وحكامكم أسعد خلق الله بصمتكم
- ريثما ينضج ابداعكم- أو تنضج مؤامرة الخيانة على صوت “شخيركم المسالم” في زمن الخيانات الجماعية؟!
نظرت حولي ونظري يمتد على طول الأرض وأنا لا أرى إلا مقهى- الاسترخاء الرسمي- ممتد على طول الخريطة العربية؟!
حتى أصبح الجمع متفقا لحلاوة صوت شخير الأديب المسالم… بعد ذلك من هذا الذي بقي ليكتب؟!
أنا…
أنا العائد من “برقوق نيسان، العاشق، رجالا لم يروا للآن الشمس، العاشق” الموت لموت افظع، تموت وأنت فيه على قيد الحياة باسم الحياة؟!
صرخت بأعلى صوتي فيهم :
أيها العميان المبصرون ” الذين لا تدركون أن الكتابة نبع الوعي المتجدد بالصحو ، وكل الذين يلوذون إلى بركهم الراكدة والآسنة سيصحو ذات يوم لتجدوا “بشاعة” من نوع آخر ، تأكدوا سينتهي الأمر بينكم إلى أن تأسن بحيراتكم وتموت احصنتكم البرية المتمردة ، وتختنق جو الطيور الجارحة في عليائكم ، وتنتحر الفراشات المنيرة بالضوء بدرب عتمتكم.
معكم أيها المغفلون سوف تستيقظون لتجدوا على شاطئ عزلتكم ثمان وعشرين جثة ملونة لأسماك نادرة كانت حروف ابجديتكم الطروب.
امسكني صديقي لاهدأ ..وهو يتمتم بعبارات لم اسمعها نفضت يداه عني وهربت راكضا مع توأمي السيامي القضية ، في مدن مجنونة ومجهولة الهوية باتت عني ، اركض وأنا احمل ثقل الحياة على كتفي ، وأنا أردد:
“كان وما زال الفرار موتا “
لا تخضع يا غسان إلا لإلهك الداخلي هذا عالمنا الثالث بات مكرسا للتفاهة والصمت المدجن وصارت مهمة الكاتب لا تخرج عن أن تكون ” مبدعا مقتولا” ينهض من موته اليومي ليسقط تحت سنابك أحداث الزمن الجامحة ، المذهلة بالتناقض- وعليه أن يعيش موته باتقان ومثابرة ، ما دام تم قبوله أن يبقى قابعا داخل ما يحدث ، وهذا الوطن يحاصره من الجهات الأربعة حتى إذا حدق في المرآة لن يجد إلا خارطة الوطن العربي !
مذهولا يائسا حينها وجدتني اركض باتجاه قبري احفره بيدي فليس هناك ابشع من الموت وأنت على قيد الحياة ، وأنا على يقين الآن أن ليس بعد الموت موت..
أنا الجسد المثقب الممزق بالبارود ، وأنت تذل باسم الحياة .
باتت الكتابة في زمن العولمة انتحار ..
وهل لمثلي خيار بعد أن دفعت الثمن حياتي سابقا !؟
يا عبيد المرحلة ..” ما تبقى لكم”، “وأنا عائد إلى حيفا”..
هل لي غير الكتابة الآن ..إذا سانتحر لانقاذ حياتي !
وسأكتب ..على شاهدة قبري الذي عدت لاحفره الآن ؟
دق على الخزان
دق على الخزان
لا تستسلم
دق على الخزان !!!