كيف تموت الظباء/ قصة قصيرة/بقلم الكاتبة خلود أنيس ابراهيم – سورية
كيف تموت الظباء
وقفت أمامه بكلّ ما فيها من كنوزٍ ، و أسرار محاطةً بالورد ( هكذا كان يراها دائماً حتى و إن لم تكن كذلك) . مدّ يده إلى الورد الوهمي المحيط بها قطف وردة شمّها، و من ثم وضعها في شعرها . ابتسمت فكان جوابه على ابتسامتها كلمة واحدة كانت بالنسبة له اختصار لكل ما يراه فيها : ( ظبية ).
كانت كالظباء تمشي خائفةً من شيءٍ ما غير مرئي ، و لكنها تعتقد أنه موجود . تخافه فتجفل ،و تعدو مبتعدة .
هكذا كان سلوك الظباء إذا خافت أما هي فكانت إذا خافت تبكي .
لم يكن يجد تشابهاً بين العدوِ ، و البكاء سوى أنهما سلوكٌ مشترك يتم اللجوء إليه عند الشعور بالخوف .
كانت كالظباء بعينيها الواسعتين الداكنتين اللتين كانتا بالنسبة له مساحات جميلة في جسدها تفتحان له المجال للغوص في مساحات أعمق ، و أوسع بكثير في روحها .
حينما كان يحدّثها كانت ترمش بعينيها عدة مرات ، و في كل مرةٍ ترمش فيها كان يغوص أكثر ، و كلما تعمّق غوصُه في مساحات روحها غاص أكثر في مساحات أحاسيسه التي كانت تتسع أفقيّاً أيضا مع كل رمشة منها .
حينما كان يحدثها محاولاً أن يوسع المكان لها في دائرة وجوده لم تكن تنظر بعينيه مباشرةً بل كانت تتلفّت في كل الاتجاهات كأنما تبحث عن شيء ، أو أحد ما مرئي أو غير مرئي لتعدو إليه خائفة من شيءٍ خفيّ في داخلها كانت تحسّه على هيئة وهمٍ ما ، و هذا ما كان يحيّره لماذا كلما اقترب عدَتْ مبتعدةً ؟ .
في صغره ، و صباه كثيراً ما شاهد رسومات تمثل الظباء ، و من خلال هذه الرسومات عرف أنها تحب الأعشاب النضرة والماء . تلجأ دائما للظلال ، و الأكمات لتمتزج باخضرارها الجميل مبتعدة عن كل انحرافات الحر و البرد .
الرسوم صوّرتها له كائناتٍ جميلة متناسقة ، حلوة الينين نابصة القلب بشكل واضح ، و غالباً ما كانت تصوّر أمامها أنثى تمدّ لها يدها بشيء ما لتغريها بالاقتراب منها مطمئنة هادئة وديعة .
قرّر أن يسلك ذات السلوك مع ظبيته فصنع لها واحة ظليلة خضراء كثيرة المياه ، و جلس فيها مادّاً يده علّها تشعر بالأمان فتقترب .
خبّأ لها قطع السكر . حبات من العنب ،و قليل من اللوز و العسل . لا يعرف لماذا ركّز على كل ما طعمه حلو ؟
حتى أنه لم يكن يعلم إن كانت الظباء تفضل المذاق الحلو للأشياء ؟
المهم أنه نفّذ كل شيء و انتظر اقترابها .
لمحته من بعيد و رأت اخضرار المكان حوله فاقتربت قليلاً . دارت حول الواحة عدة مرات . مدّت أنفها الصغير تتحسس رائحة كل ما حولها (و هذا ما لم يحسب له حساباً فغريزة الخوف مرتبطة بشكل وثيق مع حاسة الشم عندالظباء .)..
أخفضت رأسها قليلاً . مسحت التراب بخدها . داعبت الأعشاب الطرية بأنفها . رفعت رأسها مرة اخرى بطريقة توحي كأنها تشم رائحة الأثير . فجأة شنّفت أذنيها . سكنت كل حركاتها ، و من ثم اقتربت منه خطوة صغيرة …
في البداية كان صبوراً بما فيه الكفاية لتقترب منه على مهل عدة خطوات أخرى ، مُعيدةً في كل خطوة ذات الحركات الحذرة ، و المستكشفة .
قبل أن تصل بقليل أحس أن صبره نفذ ، و ما عاد قادراً على الجلوس في مكانه . اجتاحه التعب ، و رفعته موجة مللٍ إلى أقصى نقطة من بحر الضجر فما كان منه إلا أن استلّ من جعبته سهماً ثبّته في قوسه و صوّب نحو قدميها … و رماها .
فكّر أنه بذلك قد يختصر التعب و الزمن ؟ و أنها ستقترب منه اقتراباً ليس بعده ابتعاد أبداُ . ما كفاه صبره ليُتمّ اقترابها المطمئن ، ولم تكن محبّته كافية ليوفر لها مساحة أكبر من الأمان فترقد في حضنه بلا خوف .
جرح قدمها و جرح روحها …
جفلت من حركته غير المتوقعة ، ارتعدت فرائصها .. قفزت للوراء ، و بدأت تعدو مبتعدة غير شاعرة بألم جرحها أو نزيف دمائها التي كانت تخضّب العشب خلفها.
في أثناء ذلك وقف في مكانه يراقبها مذهولاً … مصعوقاً بفعلته … ناداها : ( يا ظبية …. يا ظبية … )
ذهبت بعيداً و لم تلتفت للخلف . حملت جرها و رحلت . لم يكن يعلم إن كان الجرح مميتاً أم لا ؟ ، و لم يكن يعلم ما الذي يقتل الظباء ؟ ، و لكنه في تلك اللحظة عرف أنها تموت من السهام غير المتوقعة المخبوءة في أماكن غير معتادة فتطلقها أيدٍ لا يمكن تخيُّل أنها قد تؤذيها .
كسر قوسه ، و دقّ بقاياه على الأرض و هو يصيح : ( عليّ اللعنة … ). استمر بدق بقايا قوسه الذي تكسّر حتى فتح عينيه فجأة فوجد أنه ما زال في سريره و أن ظبيته التي تعاود زيارته في الحلم غير موجودة . .
نهض من السرير أزاح الستائر فشعر بأشعة الشمس دافئة حانيةً تتسلل إلى غرفته الشبيهة بصحراء مقفرة ليس فيها من حياة سوى الواحة الوحيدة التي شكّلتها صورة ظبيته .
اتجه نحوها ، و بحركة اعتيادية غير أنها في كل مرة تخلّف في نفسه شعوراً مختلفاً عن المرات السابقة مسح وجهها بأصابعه : ( سامحيني يا مريم … سامحيني يا ظبيتي فأنا لم أقرأ أبداً كيف يمكن للظباء أن تموت .) .
أكمل سيره باتجاه المطبخ وضع الإبريق الصغير على النار ، تابع صوب المغسلة غسل وجهه و نظر في المرآة سائلاً نفسه لماذا لم أقرأ يوما عن الظباء ؟ ) ..
نشّف وجهه ، و أكمل إزاحة الستائر عن بقية النوافذ مفسحاً للضوء بأن يسترخي في كل بقعة من شقته الصغيرة .
عاد إلى المطبخ ثانيةً ليكمل صنع شايه الذي طالما سألته عنه مازحةً : ( كيف تشرب الشاي صباحاً ) فيجيبها بذات النبرة المازحة : ( كما تشربين القهوة صباحا !!! مسألة اعتياد يا ظبيتي ) .
حمل الكوب ، و اتّجه إلى ركنه الذي أعدّه خلف باب شقته .جلس هناك يحتسي شايه على مهل ، و هو يستمع إلى نبض الحياة المستمر خلف الباب فيما نبض حياته قد تباطء منذ أن رحلت ظبيته .