أدب وفن

الموت البطيء/ قصة قصيرة/ الكاتبة هند يوسف خضر

الموت البطيء

على إيقاع الوجع المغمّس بالتّمنّي يعزف وسام ألحاناً شجيّة تدوّي في أرجاء كرتنا الأرضيّة ،يعضّ على شفتيه ،يكابر على آلامه الّتي أطلق عليها تجّار الضّمائر وابلاً من الرّصاص ،يفترش همومه ويتوسّد دمعة كبرياء أمام أولاده الأربعة الّذين كانت عيونهم تطارده في كلّ حركة يقوم بها..
نهض صباحاً ، ترك زوجته نغم تغطّ في نوم عميق بعد أن عادت وجه الفجر منهكة من سهر ليلة كاملة في معمل السكّر ،يكفيها ما تعانيه من آلام في المفاصل ولكنّها تعمل لتساعد زوجها في مصروف البيت قدر المستطاع ،غادر منزله بخطوات أصابها الفتور والخوف من المجهول ،وقف في الازدحام الخانق متسائلاً :
ربّاه ما هذا الطّريق الضّبابيّ الّذي لانهاية واضحة له ؟ هذا الصّباح الرّماديّ من أين سآتي بلقمة العيش لأطفالي الجياع الّذين ناموا ومعدتهم خاوية من الطّعام ؟الأجر الّذي أتقاضاه مقابل عملي في مقهى نادلاً لا يسدّ رمق احتياجات الحياة اليوميّة الأساسيّة..
أصبحت أفكاره تدور في طواحين أسئلة تبدو إجاباتها عقيمة من المستحيل أن تنجب أملاً ..
هاهو طيف أيلول يزوره لتبتلّ أطرافه بأمطار موحلة ،لم يأت أيلول بمفرده بل أتى ومعه هموم حملها ثقيل جدّاً مع بدء العام الدراسيّ ،الأولاد بحاجة كلّ شيء وجنون الأسعار يسلب منه عافيته ..
حدّث نفسه بيأس و سوداويّة :ما العمل الّذي سأنجزه كي أغطّي كلّ هذه النفقات ؟ وإن تخطّيت هذه المرحلة بسلام ، ترى ماذا بعد الخريف ؟
‏ ‏ سيحلّ الشتاء بصقيعه الّذي ينهش العظام بأسنان لا تعرف الرّحمة ولا الشّفقة ، ما من وسائل تدفئة كافية للأخذ بالثّأر من البرد -هذا إن تواجدت أصلاً –
‏ ‏ ‏أوّاه لقد تذكّرت أنّه حان موعد دفع فواتير الكهرباء أيضاً ،ضحك في قرارة نفسه ساخراً سأدفع الفواتير رغماً عن أنفي مقابل ساعة كهرباء في اليوم وربّما أقلّ ،
‏ ‏ ‏لقد أصبحت حياتنا مظلمة تماماً فقد شيّعنا جثمان الضّوء إلى مثواه الأخير للأبد ..
‏ ‏ ‏وقف في الشّارع تائهاً عند تقاطع الأحلام مع الواقع ، يخشى أن يتابع سيره بلا فائدة مرجوّة ،ويقتله شعوره إن عاد إلى البيت فارغ اليدين من كسرة خبز لأولاده الّذين ينتظرونه على أحرّ من الجمر ،ستخيب ظنونهم حقاً وسينامون بلا طعام ليلة ثانية. حزم همومه ومضى إلى البيت، دقّ جرس المنزل فتحت زوجته الباب الّتي تتحمّل كلّ أوجاع الدّنيا بصمت..
‏نغم: ‏أهلاً وسهلاً يا وسام ..
‏وقف وسام وقد طأطأ رأسه في الأرض هارباً من النّظر إلى عينيّ زوجته وكأنّه يلوم نفسه
‏ربّتت على كتفه قائلةً :رأسك خُلِقَ ليبقى مرفوعاً فليس لك ذنباً بما يحدث ..
‏ ‏يهرع ولده البكر أحمد إليه يحضنه بقوّة لا تحزن يا أبي سيكون الّله معنا..
‏ ‏وسام: أجل يا بنيّ..
‏ ‏ يبدو أنّ قساوة الحياة قد صنعت من أحمد رجلاً حدث نفسه…
‏ ‏ ‏أخرج هاتفه الشّقيّ ليضغط على أزراره ويجري مكالمة هاتفيّة :عذراً رقم الأمل المطلوب في هذه البلاد مغلق أو خارج نطاق التّغطية …
‏ ‏ ‏لقد رسمت لنا أقدارنا دائرة الموت البطيء ،قبعنا داخلها ،عيوننا تترقّب بصيصاً من النّور من خلف جدران زنزانة الواقع وليس باليد حيلة .

‏ ‏ ‏

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى