أسئلة المثقف.. وتهافت المعنى/ بقلم الأديب نظام مارديني
ضوء
……..
أسئلة المثقف..
وتهافت المعنى
إذا كان اللجوء الى المنطق العقلي، في تصويب الحاضر الثقافي ضروري في الظروف الاعتيادية، وفي كل زمان، فهو أكثر ضرورة عندما يعيش مجتمعنا أزمة وجود بنيوية.. وحيث تتدحرج العقول عن مكانها، وتحل في الرؤوس نشارة الخشب.
ولكن لماذا يُعَد طرح مفهوم المنهج العلمي مهمةً وأمانة ورسالة؟ ولماذا يُعَد اكتساب هذا الطرح تنميةً ثقافية عقلية حقيقية ومبتغاة؟
المنطق العلمي في جوهره آلية إيجابية فعَّالة، لتَعامل الإنسان مع وقائع عالمه، تقوم على التآزر والتحاور بين قدرات الذهن ومعطيات الحواس، وهذه آلية كامنة في كل عقلٍ بشري، وتبلغ أقصاها في المنهج العلمي، تمامًا كما نقول إن القدرة الفنية كامنة في كل إنسان، وأي طفل لا بد أن يمارس الرسم، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها مع الفنانين الكبار، أو أن القدرة على الكتابة كائنة لدى البشر أجمعين، وأي تلميذ لا بد أن يكتب موضوع الإنشاء، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها لدى المثقفين الكبار. كذلك آلية الحوار الإيجابي المثمر بين الأفكار والواقع كائنة في كل العقول، في مدًى واسع ممتد، وينبغي العمل على تنميتها دائمًا بين شرائح المجتمع ونخبه، وهذه الآلية تبلغ أقصاها وذروتها في اتباعنا المنهج العلمي في التواصل والحوار.
هذه المقدمة العلمية أراها ضرورية لفهم أسئلة المثقف في ضوء ظهور الانبعاثات التكفيرية الدينية والعنصرية الإثنية في فضاء الهلال السوري الخصيب، على حساب الافكار المدنية.. وللتطهير الإقصائي داخل عالم الطوائف قوة مهولة للتدمير المتبادل، وذلك لان هذه الانبعاثات أخذت تحتكر مسوّغات الشرعية السياسية ما أدى الى ظهور جماعات خيالية متجانسة ذات طبيعة عصابية تختزل المجتمع في ثنائيات مانوية شرسة وداخل لعبة الاستراتيجيات السياسية والتماثل مع ايديولوجية خلاصية انقاذية.. فقد تمّ تحويل أسماء الطوائف في الحقل الثقافي، نتيجة للتركيبات الديمغرافية المجتمعية، من هوية دينية الى دين الطائفة!
ولكن، هل ثمة دور للمثقف في الهستيريا الجماعية التي يعيشها الآن هلالنا السوري الخصيب، في الأطوار الكارثيّة لعنف الإثنيات والمذاهب ونزوعها إلى القتل الجماعيّ بأعصاب باردة، وتسويغ أخلاقيّ، متوتّر، وعالي الوطيس، لم نشهد له مثيلًا من قبل؟ وهل آثر المثقف في هذه اللحظة التاريخية الفارقة؛ اللحظة التي يُشهر فيها التكفيري سيوف بطشه البربريّ في وجوهنا جميعاً، أن يتوارى في ظلال الصمت؛ خوفًا، أو حفاظًا على بعض مكاسب آنيّة، أو أن يصبح كراكوزًا يرقص ويهتزّ شوقاً وطرباً على إيقاعات بسطار الأمير المخلص، لاهجاً بجميع الأدعية السماوية والدنيوية الواجبة في مديح ظل الله في الأرض، بحثًا عن مغانم أكثر، وبأشدّ طرائق التزلُّف التي لم تخطر من قبل على بال بشر!؟
هنا يأتي دور المثقف “الحقيقي” الذي يعمل على كشف زيف المثقف “المزيف” والذي نراه أحياناً يتصدر واجهات المنافذ الإعلامية والثقافية وهو يعمل على شحن مفهوم الطائفية والعرقية وافرازاتهما المريضة، في مجتمع لم يعد يحتمل وجود مظاهر سلبية تحاول أن تعيد نفسها، بإصرار من يبحث عن مصلحته الشخصية متغاضياً عن مصلحة المجموع العام وتطور مجتمعه الباحث عن المفهوم الصادق لمعنى “المواطنة” بلا تطرّف ولا انحياز ولا تشتت مقيت.
لا يظنّن أحد أن الثقافة بمنأى عن كل هذا الخراب، لأن المثقف هو أسّ المعنى ومنتج الوعي، وهو حامل لواء التغيير.. فمتى يُخرج هذا المثقف أداءه المسرحيّ الفجّ من كهوف انتماءاته وولاءاته الضيّقة، ليعلن، بكل صلابة، إيمانه بوحدة مجتمعه، ومعاداته للفكر الانقسامي، التكفيري منه والإثني؟
المثقفون حين يتساجلون.. هل نبالغ إذا قلنا إنهم بدوا تكفيريين وعنصريين اكثر من التكفيريين والعنصريين، وان ربطات العنق الانيقة التي يرتدونها لم ولن تخفي السواطير التي بدت واضحة في وجوههم.. في عيونهم، في عقولهم، في ألسنتهم وفي حروفهم؟
لا بد للمثقف، وهو يخوض غمار الصراع الوجودي مع قوى الظلام والجهل والتخلف أن يراجع نفسه قليلاً، وأن يعيد السؤال تلو السؤال ليصل إلى تعريفات جديدة للراهن العقلي في هلالنا الخصيب، إلى أين ومن أين؟ وهل من ضفاف آمنة خلف كل هذا العناء؟
لنكن أكثر وضوحاً، ونقول إن مجتمعنا، في المحيط، وضع لقرون داخل ثقافة اللامعنى.. وكم كان دور يسوع (بعيداً عن تأويلات الأناجيل) فذاً في إعادة وصل ما انقطع بيننا كمجتمع وبين المعنى؟
كفى هؤلاء المثقفين مقاربة مجنونة وزبائنية.. بل ومقاربة مذهبية وعرقية لمشهد الهلال السوري الخصيب، وليرددوا مع لوي أراغون “هوذا اليوم الذي أضأنا فيه القمر…”!