أدب وفن

حفل تكريمي لروح الشاعر الراحل باسكال عسّاف في ملتقى حبر أبيض

أحيا ملتقى حبر أبيض فعالية ثقافية تكريمية لروح الشاعر الراحل باسكال عسّاف في امسية حملت عنوان “هل يموت الشعراء ” أدارت و قدمت الحفل الشاعرة أماني غيث و حضره كوكبة من أهل الشعر و الثقافة و الإعلام.

بدأ الحفل بكلمة الشاعر مردوك الشامي رئيس ملتقى حبر أبيض.

إذا مات الشاعر .. لا تحزنوا !

نص كلمة الشاعر مردوك في الاحتفال التكريمي الذي اقيم في منتدى حبر ابيض للشاعر الراحل باسكال عساف .


كلنا لحظة نغادر الرحم، تبدأ رحلتنا مع الموت.
كلَّ يومٍ نعيشهُ ، كلّ شمعةٍ نطفئها، كلّ خطوةٍ على التراب، كلّ حلمٍ بجناحين نركضُ خلفه، كل ابتسامةٍ هنا، ودمعةٍ هناك، كلُّ ذلك مجرد رحيلٍ يوميّ على صهوة الوقت، نحو المقبرة..
مسيرتنا على هذه الأرضُ انتقالٌ بين رحمين ، الأول فردوسنا الحقيقي، حيث الكمال في العمر والبراءة ، حيث الفراشةُ تحط على أكفّنا بلا حذر، والدفءُ والصدقُ والمحبة الفاضلة، والثاني رحمٌ في الترابِ هو المحطة الأخيرة للجسد، بانتظار الختام الملتبس لمسيرة الروح.
لن ألجأ الليلة لمبالغة الأفكار، وبلاغة الكلمات، وأقنعكم بأنّ الشعراء لا يموتون..
ولن ألبس قفازين من قرنفلٍ وإدعاء، لأقول إنّ الشعراء ليسوا من الطين، وإنهم كائنات مجنحةٌ وأثيرية..
سأكون صريحاً جداً، وأقول إن الشعراء هم أكثر البشر موتاً ، وأشدّ المخلوقات ارتباطاً بالتراب، والوجع، وفكرة الرحيل.
ولا أدري هل الشعر بالنسبة إليهم نعمةٌ أم لعنة؟..
الشعر نقطةُ ضعفهم تجاه العالم، وليس مطلقاً نقطة قوتهم كما يصوّر لنا الحالمون..
مركزُ حساسيتهم المفرطة تجاه كل شيء، تجاه الألم، والقهر، والخراب، يجعلهم دائما أشبه برادار يستقطبُ كل كوارث الكون، ليقنعهم أنهم ضليعون بالتآمر على البهجة..
لهذا الشعراء محزونون، تعساء، مخذولون غالبا، ومنكوبون، ولهذا هم دائما مشاريع ضحايا لكلّ شرّ على هذه الأرض، ولا أعني هنا جميع الذين يكتبون القصيدةَ والأدبَ، أعني الذين يكتبون الشعر ، فكم من قصائد نقرأ لا شعر فيها، وكم من أدبٍ يقدمه إلينا آلافُ المدّعين و لا يقربون الأدب أبداً .
الشعراء الحقيقيون هم الذين أشير إليهم هنا، وهم الذين يأتون الحياة موتى، كل قصيدة يكتبونها تضيء في العتمة المؤبدة شمعة، وتضيف إلى قلوبهم نبضة خلاقة تصنع لهم الحياة التي يجبون.
وكل موقفٍ يترفّعون به عن الهبوط العام، يجعلهم يشعرون أنهم يتنفسّون حقاً، وأنهم مستمرون روحاً عاليةً رغم الجسد الوضيع.
كل صرخةٍ يطلقونها في مجتمعاتٍ يسودها السكوت والخرس العام، ترفع حجراً في عمارةِ الصحو رغم السبات الكثيف.
الشعراء يموتون، لكن الشعر لايموت،
يُدفنون كما الآخرين، لكنّ أكفَّهم ترتفع أشرعة وأطواق نجاة.
تتحلل أجسادهم في التراب كما جميع المخلوقات، لكنها تندلع حقولا وفراديس وأشجاراً عالية تأوي إليها الأفئدة والعصافير.
هم أنقياء هذه الأرض، فقراؤها، مكسوروها، قلما يكون لهم بيتٌ يمتلكونه، وهم شيدوا أبياتا بلا حصر، لكن على الورق وفي جغرافيا الأثير، كثيرون منهم يتوسلون الفرح للكل، ويتسولون رغيف العرفان والوفاء والخبز أيضا.
قبل أيام أودعنا في التراب محمد علي شمس الدين، لكن سنديانة شعره لا تزال هنا وهناك وفي كل الأرض.
وقبل أيام حملنا باسكال عساف إلى مثواه الأخير، لكنه لا يزال بيننا، يجمعنا، ويرصد في ملامحنا التوق إلى عناقه.
ربما لم يخرج في وداع جثمانه كثيرون، ربما لم تسمع بموته الغالبية،ولا احتشد لوداعه هنا المتحدثون كما يحصل عادة مع المشاهير ..لكنه رغم رحيلة الحزين في منتهى السعادة، لأنه وأخيرا كتبَ نصه الأخير وإن مغمسّا بالوحدة والقهر.
باسكال عساف الشاعر الشفافُ كقطرة عطر، الطيب البريء الخجول الانطوائي داخل ذاته، ربما لم أعرفه جيدا، كنت التقيه في أمسيات شهرياد ، يجلس هادئا، ولا أذكر مرة أنه قرأ شعره مع أنهم وانا طلبت إليه مرات كثيرة أن يفعل..
قبل أقل من عام وقف باسكال على هذا المنبر شريكا للمتفردة لوركا سبيتي في أمسية كانت رائعة فعلا..
وزّع على الحاضرين مجموعاته الشعرية، ورغيف محبته العارمة..وترك بعد مغادرته الكثير من الدفء والضوء..
ثم سمعت بمرضه، عرفتُ أنه يعاني ، ومن الطبيعي أن يعاني الشعراء، وأن يتوجّعوا عنهم وعن الآخرين ..
ثم فجأةً جاءنا الخبر .. مات باسكال عساف، لم أصدم، لكنني شعرت بالحزن والقهر، قنديل آخر ينكسر، لكنه أبدا لن يقارب الانطفاء..
الشعراء يموتون، أجسادهم أكفانهم منذ الولادة، لكن الشعر لا يموت ..
كل العزاء لعائلة باسكال ، لمحبيه، للشعراء في كل مكان..
أعرف أنه لم يكون بيننا بعد اليوم، لكن وجودنا اليوم من اجله يقول العكس، بقاء كتبه وسيرته بيننا ، لخير دليل أنه سيبقى هنا..
إذا مات الشاعر، لا تحزنوا، اقرأوه من جديد ، وسيعود .

كلمة الشاعرة أماني غيث

كلمة الشاعرة أماني غيث في تكريم الشاعر باسكال عسّاف في ملتقى حبر أبيض
مساءَ الآمالِ الَّتي لم تُقتلْ بعد
مساء النَّجاة في زمن الغرق، الغرق السّياسي والغرق الإنسانيّ، والغرق الأخلاقي،
مساء كلّ الذين رفضوا أن يزوروا هذه الحياةَ سدىً، وأن يغادروها بلا أثر.
مساء مَن حجزوا أمكنتَهم في الخلود.
من أكثر الجمل الّتي أسمعها كلَّ يوم: “شو كتران الموت” أكاد أصرخ في قائليها: “صحِّحوا معلوماتِكم، مش الموت يلِّي كِتِر، الحياة، هي اللّي قلِّت.”
حين طُلِب منّي أن أدير هذه الأمسية، كان جوابي: لا أجيد، وعندما عرفتُ أنَّ الموضوعَ هو الموت، عدَّلتُ الإجابةَ فورًا لتصبح: كم أتقِنُ الحديثَ عنه، بل كم لا أتقن موضوعًا آخر.
كيف لا؟ ونحنُ نتفرّج على رحيل الرِّفاق واحدًا تلو آخر، ونحن نتدرَّب كلّ يوم على المزيد من الغياب، وكم صرنا متخصِّصين بالحزن، وخبراءَ بالوجع والوداع وبالرِّثاء، وكم اعتدنا التّلويح بيمنانا لمَن يمضون، هكذا وببطء. لشعراءَ لم يجدوا طريقةً أخرى ليمازحوا القصيدة ويربكوا اللّغة. لكن مهلًا يا لها من مزحةٍ ثقيلة، هل حقًّا قلتُم كلَّ شيء، وجميعنا يعرف كم أنّ الكلماتِ التي لم تُقل ولم تُكتب، تؤلم، حتّى مَن لم يعد على قيد الحياة.
لطالما استغربتُ طريقة تفكير الموت ورغبت في الدّخول إلى رأسه لمعرفة ما قصده؟ لطالما وقفت حائرةً أمام خيالِه الخصب، والآن أراه يصبح ذوّاقًا، ويختار بدقّةٍ عالية باقةً من القامات والشّعراء، كأنّه طامعٌ بضوئهم بمجازهم، بأن يستمع إلى الكثير من الشعر، وحده ودفعةً واحدة.
لكن كيف يموت شاعرٌ قدرُه أن يولد فمُه قبلَه؟ وقدره أن يبقى فمُه بعدَه؟ كيف يموت شاعرٌ فمه يكبره بكثير؟
نعم هو قد يعرف الموتَ مرارًا قبل رحيله، كلّما مُنِع اللغةَ وحُرم منها، في كلّ مرّةٍ تخاصمه الكلمات وتركض للاختباء في أماكن بعيدة وعالية، عندما تشاكسه الورقةُ ببياضٍ مبالغٍ فيه. فتروه يشعر بالاختناق، بأنَّه ينقص، يتلاشى، يبدو قبيحًا ومنبوذًا، يكاد يموت، يموت من دونها… الأدباء الأحياء يُقتلون بالصّمت ويكفَّنون بالورق الأبيض. الجملة الأخيرة التي قالها همنغواي باكيًا قبل أن يميتَ نفسه: لم تعدِ الكلمات تأتي.
أليس النسيان هو الموت الآخر الّذي يهدِّد الشّاعر بعد رحيله؟ وهل نحن نعرفهم جميعهم، المبدعين الّذين مرّوا على هذه الأرض؟ هل تظنّون أنّ التاريخ دائمًا على حق؟ أنّه يعترف بكلّ ما حدث؟ التّاريخ يا أصدقائي منافقٌ كبير! ألم يهمِل تسلا، ويمجّد سارق أفكاره ايديسون، ألم يكد ينتصر لرودان الذي وقَّع باسمه منحوتاتِ تلميذةٍ له! وكذلك في الشعر فمَن منّا يعرف مثلًا أنّ لمي منسى وفينوس خوري الشهيرتين شقيقًا شاعرًا مات منتحرًا، تقول فينوس إنّها كتبت بقلمه وعلى دفتره، إنها نشرت فقط لأن أحدًا لم يرض بنشر قصائد أخيها الذي لا أحد يعرفه، ألا يموت مبدعٌ حين لا يعرفُه أحد ولا يتحدّث عنه أحد وحين ينساه الجميع؟!
لكنّ شاعرًا كدرويش لم يُنسَ كأنّه لم يكن وجميعنا يعرف أنّ رقم بطاقتِه 50 ألف،
وأنّ رينيه عاد إلى الحياة يوم أقسم هيغو: سأكون شاتوبريان أو لا شيء!
ألا يحيا الشعراء والمبدعون الراحلون عندما ينصفهم الزّمن ويكنِسُ الغبارَ عن أسمائهم، عندما لا يُغمض الدارسون والباحثون والنقادُ والقرّاء أعينهم مرّة، أتخيّل فرحةَ بوشكين عندما عثرت إحدى الشاعرات على قصيدةٍ له بعد قتله بسنوات! كم كان سيموتُ أكثر لو أنّها ظلَّت مدفونة.
التقيتُ به مرّةً واحدة، ولدى الشعراء، أظنّ ذلك كافيًا، كان هادئًا، متبسّمًا، رأيته يعانق الورق وينحني للشِّعر ويقوله بخشوع، مثل صلاة، برقَّة مثل موسيقا. هو يقول إنّ كلَّ قصيدةٍ له، اعترافٌ بجريمة، وما أجمل الجرائمِ التي يرتكبها الشُّعراء، إلّا واحدة: أن يلفظوا الأنفاس الأخيرة للقصيدة، أن يكون لهم نصفُ حياة، ورحيلٌ كامل.
باسكال عسّاف، وقد سبقتَني إلى هذا المنبر، نحن هنا اليوم، لنحيّيك، كلٌّ على طريقته، لأنّ شاعرًا مثلَك لا يرحل، إلّا ليمنح قصائده، المزيدَ من الحياة.
هل تعرفون ماذا يحصل لأدبائنا وشعرائنا بعد رحيلهم؟ هم يقتلون طبعًا.
هل تعرفون أنّ كاسترو كان أوّل من قرأ مئة عام من العزلة قبل نشرها؛
أنّ كفاح هتلر مليء بأفكارِ نيتشه ؛
أن ساركوزي يحفظ مقاطع كاملة من روايات سيلين؛
وأنّ التلفزيون الفرنسي قطع بثّه ذات يوم ليخرج الرئيس بومبيدو قائلا بحزنٍ كبير : مات بابلو (بيكاسو) .
وأّن ستالين، حتّى ستالين، الّذي قتل أربعة أضعاف ما قتله هتلر وأكثرهم من المثقّفين، أسمى الكتّاب والشعراء “مهندسي النّفسِ البشرية”، وكان واحدًا من اثنين حملا نعش ماكسيم غوركي؛
هل تعلمون أنّ كوكبًا في الفضاء أُطلق عليه اسم آنّا أخماتوفا؛
أنّ ديغول كتب في مذكّراته: إلى يميني كان وسيظلّ أندريه مالرو؛
وأن شيراك نقل جثمانَه أي مالرو بعد 20 عامًا من وفاته إلى البانتيون؛
أنّ في العام الماضي (2021) عمل ماكرون على نقل جثماني رامبو وفرلين إلى هناك، لولا أنّ سمعة الشاعرين لم تشفع لهما؛
هل تعلمون أنّ على واجهة البونتيون حيث يُدفن الكتّابُ والعلماء والفنانون، عبارة: إلى العظماء من بلدٍ ممتنّ؛
هل تعلمون أنّ في بلادٍ أخرى يتنافس القادة والرّؤساء ويتسابقون لإرضاء الشعراء والكتّاب، أنّهم يتباهون بتكريمهم وذكر أسمائهم حتّى،
أمّا هنا، فلا يُخفى على أحد أنّ الموظّفين لدينا، أي من سلّمناهم شؤوننا وقرارنا، هم لا يقرأون لنا، ولا يهنّئوننا، ولا ينفوننا، ولا يسجنوننا من أجل قصيدة، ولا يقتلوننا بسبب فكرة، لأنّهم بكلّ بساطة، لهم في الأرقام، وليس في الكلمات…

كلمة الشاعر علي أبي رعد في الأمسية التكريمية للشاعر الراحل باسكال عساف في ملتقى حبر أبيض

الموت حُكمٌ مُبرمٌ. كمن يُعطى لشاعرٍ خمسَ دقائقَ لكتابةِ قصيدةٍ ..يجمعُ فيها شتاتَه والوجع ..يقذُفها بوجهِ العالمِ المهزلةِ ويقفزُ كي يموتَ دفعةً واحدة..
كيف لشاعرٍ أن يموتَ وهو الذي دعا الذئابَ لتوجهَ أشداقَها صوبَ القمرِ . وتُرهبُ الديوكَ والبشرَ وتُشغلُهم بالصلواتِ ..حتى يندس من شباك مفتوح في الجنة ويسرق من تحت وسادة القديس بطرس ندمه ومن تحت وسادة أمه قصائد الغزل ..
يختطف النساء ويُخفيها بين السطور ويطلب فدية من الشعر ..
يحمل نظرات حبيبته في جيبه كلما نامت حتى لا ينطفىء العالم ويلعن العتمة ..
كلما أمعن في الحب يسقط في الهزيمة فيحوّل الصخر إلى شعر كي ينجو . لكنه بحر من لحم ودم وعظامه سفن غارقة ..
دائمًا يحشد جيوشه ويُذّخر بنادقه بالضحك..يبقى وحيداً في الساحة..حتى يجيء الوقت ويستدين منه كل ابتساماته ويبيعها للنسيان بسعر بخس..
تكذب عليه المرآة فيرتاد الحانات .. يشرب الخمر والسجائر والوقت ويراهن .. ليس بدافع الربح إنّما ليتخلص من كل شيء دفعة واحدة..ويترك الطاولة لأولئك الذين يُجيدون الأمل ..
كيف عليه أن يغامر بالحب وهو العارف بأنه أقصر الطرق إلى الجحيم ..ويعرف أن دخول الجحيم ليس كالخروج منه، يدخله مهزوماً ويخرج منه بلا ذاكرة.
باسكال عساف أحب الناس والشعر حتى الهزيمة
باسكال عساف لن يموت فكل ليلة يغسل يديه من إثم الشعر وينصرف إلى النوم كسائر البشر

كلمة الأديبة الكاتبة ملاك درويش في تكريم الشاعر باسكال عسّاف في حبر أبيض

نصٌّ نثريٌّ عن الموتِ إلى روح الشّاعر “باسكال عسّاف”
الحضور الكرام.. أهلَ الفكر والإبداع..
تحيّاتٌ مغمّسةٌ بدمع حارق، ووقتٍ مقيت ننعى فيه شجرةً مثمرةً في بستان الفكر والإبداع.. إلى فقيد الشّعر، وليس الحياة، فمن تخلّده الكلمةُ لا يطوي صفحاتِ وجوده الموتُ.
الموتُ يا أصدقائي وصديقاتي أحجيةٌ عجزت العقولُ عن فكّ ألغازِها، إنّه ذاك السّرُّ الخفيُّ الّذي يؤجّجُ في النّفسِ غريزةَ البقاء، ويستفزُّ في الزّمنِ لذّةَ العطاء..
أتعرفون ما معنى أن تتوقّفَ عقاربُ السّاعةِ في لحظة؟ وأن تتجمّدَ الدّماءُ في العروق، وأن يسكتَ الفؤادُ بعد رحلةِ نبضٍ قد تطولُ أو تقصر؟
أهو صوتُ النّبض الّذي كفَّ عن الرّقص.. نعم، لا تأخذْكُم الصّدمةُ أيَّ مأخذٍ، صوتُ النّبضِ حينَ يستقيلُ من مهمّته.. أولا تسمعونَ بصوتِ الصّمت؟
فعندما تفارقُ الرّوح شاعرًا، تتوالدُ آلافُ الأجسادِ في غيرِ قصيدةٍ، وتتراقصُ على أوتارِ خلودِه الأصواتُ المجرّدةُ من كلِّ أثيرٍ مادّيّ.. لندوّنَ في التّاريخ أساطيرَ، تحاكيها الأجيالُ اللّاحقةُ..
نعم، فالحتفُ ليس صديقًا للقلم، ولا مشاكسًا للورقِ، ولا هاويًا لأناملَ تخطّ ما تخطّ في فلسفةِ الجمالِ والوجود.. ذلك أنّه يدركُ تمامًا أنّها كلُّها وجوهٌ لعملةٍ واحدةٍ، جلّها تماثلُ الحياةَ بمراحلِها ما قبلَ الولادةِ، وما بعدها، وما بعدَ الحياة.
ولنا في هذا المضمارِ أن ننقلَ مقطعًا شعريًّا لشاعرِ حرفِنِا اليومَ من ديوانه “أوبرا الوجع”: “استيقظ أيّها الرّجل/ في بطنِك غرقَت سفينة/ دعْ عنك الموتَ/ غنِّ للرّيح/ للعواصف/ للدموعِ إغفاءة/ على خشبةِ مسرح/ أعطني يدَك الباردة/ اِصنع من الخواءِ نارًا/ وانثر الرّمادَ في عيون القدر…”.
وهذا المقطعُ من قصيدةٍ نثريّة له موسومةٌ بـ “لا تمتْ البارحة”، وتتقاطعُ كثيرًا مع ما نحاولُ إرساءه من مفاهيم ترتبطُ بتحدّي الموت، وكأنّه لعبةٌ بالمقدورِ الفوزُ فيها بألوان الحياة، فتحت رماده يكمنُ إكسيرُ خلودِنا، فننبعثُ في كلّ مرّة نموتُ فيها نفسيًّا أو روحيًّا أو زمنيًّا، أو جسمانيًّا. ففي التّناقض عند إسناد الفعل الحاضر إلى الماضي في العنوان، دلالةٌ جليّةُ على أنّ العمرَ لا يحدُّه زمنٌ، وبه وفيه نحيا تقلّباتِ الحقيقة، والوجود، والماورائيّات..
ففي فلسفةِ الموتِ هذه هويّةُ وجودِنا الحقيقيّة.
إلى الشّاعر الحيّ في كلّ كلمة أنشدها على مسرح الفكر ألفُ تحيّة.. وتحيّاتي مجدّدًا لكم أصدقائي..

كلمة الشاعرة لجين الشمندي في تكريم الشاعر باسكال عساف في حبر أبيض

مساء الخير
مساء الوفاء للأوفياء
كيف نقوم بتسليط الضوء على نجم ؟
وكيف نلقي الضوء على النور ؟
وكيف نودع روحا”كانت تحاول الإمساك بالكلمات كي لا نحيا بلا معنى ؟
خسرنا في لبنان والعالم العربي وخسرت الساحة الأدبية والمشهد الثقافي في فترة زمنية قصيرة قامات أدبية وثقافية
وشعراء عمالقة :
الناقد والكاتب والمفكر د: وجيه فانوس
الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب
الكبير شمس القصيدة اللبنانية د: محمد علي شمس الدين
وأخيراً الشاعر النقي والموهوب والنبيل باسكال عساف الذي أبكر الرحيل
وعذراً من كل شاعر مغمور أوشاعرة مغمورة لم نعلم برحيلهم
الرحمة والسلام لأرواحهم
أقول ل باسكال :

ذات يوم
حاولوا دفن الأمل
في أضلع كائنات بلا هوية
فنمت لها أجنحة
وتحولت إلى طيور
وبعدها حاولوا دفنه
تحت الأشجار
فنمت لها أذرع وأرجل
حملت الطيور ومشت دون خوف
ومن ثم تم ردمه
في قلب عاشقة
تحولت إلى مجنونة في الحياة
وقديسة بعد موتها
وعندما قرروا دفنه
في قلب إنسان حر
تحول إلى شاعر
لم يصمت إلى يومنا هذا
فولدت تلك الإسطورة التي تقول :
أن الشجرة التي يدفن تحتها شاعر لاتموت
شجرة تغرد كل ورقة فيها .

باسكال عساف موهبة كبيرة تودعنا في زمن نحتاج فيه إلى الأمل
يقول رولان بارت “الذكرى بداية الكتابة والكتابة بدورها بداية الموت “
الذاكرة والموت
بين هذين القطبين ينتشر الفراغ والذي هو دون ضمانات !!
ولكن ….كيف حاول الشعراء مجابهة هذا الفراغ ؟
وهنا أقول :
“ذات لحن
تناسل المعنى
من رحم الوجود
وهكذا أصبحنا
حروفا”غير مفهومة
في مشهد الغياب “
وهكذا هم الشعراء يحاولون إضفاء المعنى لهذا الوجود وحل لغزه الأبدي،هم الذين يواصلون التنقيب عن روح إضافية تتحد مع النور …تتحد معهم لقتل تلك الوحدة الموحشة ولإبعاد الألم عن هذه النفس البشرية …
وهكذا كان الشاعر الراحل” باسكال عساف “النقي والمتواضع والذي كان ..لا يبحث عن ألقاب ولا عن التصفيق الحار ولا عن شهرة الكتابة
باسكال المثقف جدا”والممتلئ كسنبلة مثقلة بالخير
كان …وما أقسى هذه الحياة ،عندما نقول كان !!!
كان في قصائده الحبيب والطفل والبطل المتميز بروحه الهادئة والدافئة ،كان يكتب بحثا”عن الحقيقة ..فكتب الحب والوطن ،كتب الوجع والألم ،وكتب عن ذاته
كتب وزاوج في شعره بسهولة بين الرمزية والواقعية والسوريالية وكتب بإيقاع فريد ومتميز ،إيقاع داخلي …
إيقاع روحه لا غير.
أعماله:
أوبرا الوجع ٢.١٢
وجوه وأقنعة ..قصص قصيرة ٢٠١٤
أحب إمرأة واحدة ٢٠١٥
وأكره كل النساء ٢٠١٦
وآخر كتبه ..شعر ذاتي
حاور الموت ونازله وصفعه فقال:
“صفعت الموت على خده الأيمن
ورميت القفاز في وجه القدر
ومشيت “
وقال :
عندما تحين ساعتي
ويأتي الموت ليأخذني
سأتسلق ظهره
أجلس على كتفيه
أحبس نفسي الأخير في صدري
وأقول :
أعبر بي ..أيها المحتال ..خذني إلى هناك
فقد رأيت كل شيء هنا “
وقد ذكر في قصائده وأكثر من مرة ،عن الموت دفعة واحدة
ورغم كل ما تحمله هذه الجملة من الألم والموت التدريجي
إلا أنه في حقيقة الأمر ….الشعراء يموتون دفعة واحدة ،كا فعل باسكال وبعكس كل البشر الذين يموتون شيئا’فشيئا”
باسكال ..كان يعلم أنه يتجدد ويواصل اللقاء والتدفق في الحياة كباقي الشعراء وهذا هو سر الشعر ،تلك الروح النابضة والعابقة بالحياة السحرية ،ولكن باسكال …مات دفعة واحدة
ليعود ويحيا حرفا”حرفا”..وكلمة كلمة من خلال قصائده باسكال …احتضن جسدك التراب وقال سأخفف عنك ألمك ،فابتسمت له السماء وقالت سيبعت من جديد “
قال : لو كنت أقدر أن أنتزع منك
هذا الوجع
وأحشوه بين ضلوعي
لفعلت …..
وأراك مبتسمة …
ولكنك هناك ..تتألمين بصمت
وأنا هنا كالأبله
أتفرج على العالم
من خلف الزجاج
أفكر أن أفتح الشباك وأقفز
أموت دفعة واحدة
وتتلهين بوجع أجمل …
ولكنني أخاف
أخاف أن آتيك
في الصباح
لأعتذر عن حبي
ولا تسامحيني .

باسكال عساف..الرحمة والسلام لروحك .

حضر حفل التكريم حشد من اهل الشعر و الثقافة و الإعلام و نقل مباشرة على صفحة أخبار الزمان .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى