أدب وفن

تشكيل الصورة الشعرية وتشظياها في خيال الشاعرة أميرة عيسى

تشكيل الصورة الشعرية وتشظياها في خيال الشاعرة أميرة عيسى

في مجموعتها (دانتيلا الاحلام)

نزار حنا الديراني

القصيدة لدى الشاعرة أميرة عيسى في مجموعتها (دانتيلا الاحلام ) الصادرة من دار النهضة العربية بيروت – لبنان 2021 ، تولد وهي مرتدية حلتها فتنساب صورها وكلماتها الوجدانية مثلما تنساب مياه الينابيع بكل هدوء وهي تئن حين تصطدم بصخرة ما . فالكتابة بالصورة لديها هي بمثابة المحور الذي تسير وتبنى عليه الشاعرة أميرة قصيدتها ، وهذا المحور هو الخيال ، كونه مصدر العديد من صور القسم الاول (دانتيلا الأحلام) من مجموعتها هذه ، فالصورة لديها تتشكل في خيالها قبل أن تتشكل في لغتها لأن الخيال لديها  يستمد عناصره الأولية من الحياة نفسها، ثم يعيد خيالها تركيب الصورة بشكل جديد ومغاير .

الصورة الشعرية لدى الشاعرة هو القالب الذي تبث فيه أفكارها وعواطفها وانعكاس لانفعالاتها ، والكثير منها ، هي صور ذاتية تستحضر من خلالها وجودها وحبها ورقتها ، لذا أصبحت الصورة في مجموعتها هذه أحد الأركان الأساسة التي تبنى عليها قصيدتها لما تبثه الصورة من طاقة جمالية وأيحائية تولدها أحاسيس الشاعرة وتعكس من خلالها أناها . وما سهل مهمتها في رسم صورها هو خيالها ، والذي من خلاله تصل صورها الى أحاسيس المتلقي كي تداعب مشاعره وتتسلل الى قلبه من خلال منحه اياه (القارئ) الذائقة القرائية لتبقي أثر كلماتها الرقيقة عالقة بذهن المتلقي . كون الخيال هو جزء مهم في تشكيل الصورة الشعرية ورسمها وخصوصاً في الشعر الغنائي ، بل هو تلك العملية المؤدية إلى تشكيل الصورة ، والتي قد تكون من محض الخيال الذي له القدرة على تقريب البعيد ، لما للخيال من ضرورة فعلية في تحقيق وتجسيد الصورة الشعرية ، وعليه فان جمالية الشعر وقوة دلالاته تتمثل في الأيحاء عن طريق الصورة الشعرية التي تجعل مشاعر وأحاسيس المتلقي تتزاوج وأحاسيس ومشاعر المرسل لهذه الصور . لذا فلو تعمقنا في صورها لوجدنا ” ان الأحساس يلعب الدور الأول من حيث الزمن كونها تشتغل في حقل الشعر الغنائي ” فكلماتها وصورها وجدانية غير مصنعة لان الشاعرة تعيش وتتأمل صورها الجميلة والرقيقة كونها تبني موضوعها على الأنفعالية والتي تعتبر مجرد أساس أولي للتعبير في الشعر الغنائي ومن خلاله تقوم مخيلة الشاعرة بتطوير وصياغة الفكرة الفنية، وتقدمها لنا في شكل احساس مباشر أو على شكل سؤال وكما تقول في قصيدتها (موتُ… حُب)  :

ماذا تعني دموعٌ تحرقُ خدي

ماذا  تعني آهات تمزقُ صدري

ماذا تعني ابتسامات مرسومة

تصورُ نعشي !؟

لذا ما أن تبدأ بقراءة قصيدة ما إلا وأنت تجد نفسك تسير مع قصائدها بجولة ممتعة فتنساب قصائدها واحدة تلو الأخرى من غير أن تمل بقراءتها مثلما ترتشف قطرات خمرتك المفضلة فصورها وجدانية تختمر في مخيلتها وتتدفق من روحها كما تتدفق الموسيقى …

إن الولوج لمدخل المجموعة  ؛ بصرياً ، أو تخيلاً ، لابد وأن يكونِ عِبر  العتبة الاولى  للمجموعة – العنوان  – ” دانتيلا الاحلام ” والتي هي في الأساس المثابة التي ترشدك إلى الجهة التي تنوي الوصول إليها ، وعلى الأكثر هي المرآة العاكسة أولاً لجسد النَص ، فعبارة “دانتيلا” بمعناها نوع من الاقمشة الرقيقة والمثقبة والمطرزة فهي توحي لك الجمال ولأنها رافقت كلمة” الاحلام” لذا يتكامل معنى الجمال والرغبة بولادة جديدة بعيدة عن كل ما يعكر الصورة وقد أبدع الفنان الذي صمم لها صورة الغلاف من خلال التصميم وأختياره للون البنفسجي والذي كان هو الآخر مرآة عاكسة لأحلامها وحيث حاول الفنان عدم الكشف عن صورة حالمها (من خلال جعل وجه الفتاة في اللوحة غير ظاهر) لأن مجتماعتنا لا تتحمل الأحلام الجميلة والمقدسة والمفعمة بالحب ، إلا أن الشاعرة على العكس من ذلك حيث تقول ( لا شئ يثنيني عن المسير ، لا مطر … لا عواصف … ولا زمهرير / قصيدتها تأملات ) .

وكذلك في قصيدتها (قسم …) الشاعرة تصر على كفاحها من أجل اثبات الوجود وعدم الانسحاب من الساحة  وكما تقول :

أتسلق كل الصعاب

وأتحدى البشر

أمخر كل البحار

وأعاني الهجرة والسفر

عسى أن يبزغ قمري

عند السحر

الشاعرة أميرة تحاول في قصائدها ان تترجم لنا رؤياها وأملها في تحقيق أحلامها الجميلة وهي محَملة بالسعادة لتكشف لنا ما في داخلها من عاطفة جياشة وهي مشحونة بالأحساس ، فالتذوق الشعري ملكة يكتسبها الشاعر (أو الشاعرة) مع استمرارية مواكبته للنصوص الشعرية لدى الآخرين ومن خلال هذا التذوق يتمكن الشاعر من أن يقتحم “أنا” المتلقي ليبث فيه روحه ووجدانه . ولهذا يمكن القول أن نجاح نصوص الشاعرة في التفاعل مع المتلقي هو الذي منح نصوصها الشعرية قيمتها الجمالية كي تتفاعل مع هذه النصوص التي يتلقاها وكما في قصيدتها التي تحمل عنوان العتبة والقسم الاول من المجموعة “دانتيلا الاحلام “:

رقيقٌ حبك … كنسمة

تلفني في ليلة صيف

شفافٌ … كدانتيلا الاحلام

#        #        #

نجوم تطل

أنوار تضئ أحلاماً هاربة

أمد يديّ

أغمر الحلم

فقاعات زبد

سرقها أمواج مجنونة

نجد في القصيدة مزج وانعكاس لاحلامها الوردية من خلال ثقوب دانتيلها الشفاف وحيث ترسم لنا من خلال أشعة حلمها صوراً جميلة بمثابة مرايا يقاس بها موهبتها الشعرية وقدرتها التصويرية والتي ساعدتها في نقل تجربتها واحساسها الى المتلقي عبر الخيال . لهذا تعد الصورة الشعرية لدى الشاعرة أميرة عنصرا مهما في بنية نصها الشعري .

إنَّ تجسيد الخيال في صور الشاعرة أميرة عيسى ، لهو رسم فوتوغرافي بهدف جمالي ، فهو جوهر العمل الشعري المتصف بالجمال والعاطفة الصادقة، فالصورة لديها عنصر من عناصر الإبداع الشعري ومن خلالها تعبر عن التجربة الفنية فأحيانا ترسم الشاعرة صورها وكأنها لوحة رسم ، من خلال الوصف الدقيق ولكن بالكلمات لا بالخطوط والألوان وكما في قصيدتها (كلمة حائرة في يوم استراليا) :

هجرة حائرة

أيتها المرأة الجميلة

الشقراء الممشوقة

شعرك سنابلُ خضراء

عيناك ينابيع عسل

عصافيرك ملونة

تزهو على عصافير بلادي!

فالحب هو جمرة الاتقاد في اشتغالها الروحي في الكثير من نصوصها لما له من ملكة شعرية نشطة قادرة على الرصد والتقاط الصور من اليومي المعاصر استنباطا واستقراءً للأحداث الجارية، فالشاعرة لم تكنْ بعيدة عن واقعِها الجميل والمؤلمِ أحياناً، فهي ترصد كلَّ شيءٍ مِنْ زوايا بيئتها إلى ذروةِ المعانات التي أفسدتْ كلَّ شيءٍ جميل لدى شعبها ، فما أن يحضر دال الموضوع حتّى تحضر مباشرة دال الذات في مخيلتها ، فيأخذ الموضوع لديها كنهه وقيمته من حركيّة أناها ” ذاتها” لهذا تعد الصورة الشعرية لديها عنصرا بنائياً بالغ الأهمية في بنية نصها الشعري فأحياتا تتقمط الصورة تساؤلاتها وكما في قصيدتها (الأرض … والانسان) :

           هل نحن الذين نملك الأرض

           أم الأرض هي التي تهدينا؟

نهاجر

ويبقى تراب الأرض

معلقاً في مآقينا

لقد وظفت الشاعرة في قصائد مجموعتها من الألفاظ التي تدل على وجدانية صورها وشعرها كاشفة عن إرهاصات حلمها والذي أحيانا يتناص على الماضي القريب والحاضر بأسلوب سلس وصور مبسطة بعيدا عن التزاوج واستخدام الرمز والتوظيف الاسطوري كونها تركز على البعد الصوفي والعرفاني من خلال حواسها والتي هي بمثابة النافذة التي تستقبل بها مخيلتها مواد تجربتها وهي بشكلها الخام، لتعيد تشكيلها ، بناءً على ما يتصوره الخيال من صور شعرية وكلمات ذات معاني ودلالات، “غير أن الصور الموحية لديها لا تتأتى بمجرد حشد المدركات الحسية ووصفها، وإنما تتطلب نوعا من العلقة الجدلية بين الذات المبدعة ومدركاتها الحسية، لذا توحي للمتلقي جماليات دانتيلها وهي تُحمِلُها أحلامها وأمانيها في كفها ومن ثم تمد هذا الكف لينثر منه ذكريات جميلة تنموا في ذهن المتلقي صور رقيقة جميلة تلامس عواطفه وشغفه و… كما تقول في قصيدتها ( اليوم علق على خشبة ) :

وأنت يا وطني

اليوم علقت على خشبة

سالت دماؤك الطاهرة

من شرايين أبنائك الطرية

ألبسوك إكليلاً من أشواكِ

غُرزت في جبهتك الندية

الشاعرة وفقت في قصيدتها هذه في التناص على فكرة صلب المسيح لتجسد لنا صورة حاضرة لأوطاننا المصلوبة هي الأخرى على الصلبان الخشبية ، وقد شكلت الصورة الفنية ( الشعرية) في قصيدتها هذه وكغيرها من القصائد أساسا مهما تقوم عليه معمارية القصيدة عندها ، فهي تشكل مع اللغة والأيقاع ، البنية الفنية والتي من خلالها تغري المتلقي بتلك الصور المشحونة بالخيال والذي يعتبر الملهم الأول الذي مدّها بفن التصوير .

تعد الصورة الشعرية لديها عنصرًا بنائيًّا بالغ الأهمية في بنية النص الشعري ،لذا جاءت صورها عاطفية أكثر من كونها عقلية فكرية، فهي كما قلنا لا تصنع الصورة بل تولد الصورة لديها متكاملة ومرتدية حلتها ، فلو كانت الصور التي نحن بصددها صور مصنعة لبدت لنا جافة ، وصور كهذه ستقضي على روح القصيدة ، إذ إنّ روح القصيدة الغنائية في صورها الوجدانية ، لذا بدت لي صورها برهانًا على غنائيتها ووجدانها ( وكما قلنا في القسم الأول من قصائد المجموعة) وذلك لأن الذات لديها هي المصدر الأول لصورها، كون الذات في الشعر الغنائي أكثر عمقًا وسيطرة على الأغوار النفسية البعيدة التي لا يصل إليها المنطق السطحي، وكما تقول في قصيدتها (فنجان الأيام) :

وغيوم تغطي الجوانب

لا قمر يرقص

لا شمس تغني

أحدق … أفتش

أين ذاك الوميض

يبهج بساتيني

يزرع الحلم

يحصد الأمل

ويلملم حبَّ رماني

أن مفهوم الصورة في الخيال الشعري لدى الشاعرة له تأثيره في تشكيل النص وصوره الشعرية ، على أساس أن الخيال الشعري لديها يهدف الى تصوير اللغة العاطفية والخيالية والفكرية . إن تجسيد الخيال في النص الشعري له وظيفته في إخرج النص ورسمه فوتوغرافيا كونه جوهر العمل الشعري المتصف بالغنائية والجمال والعاطفة الصادقة ، لذا فالخيال هو من العناصر المهمة في التعبير عن التجربة الفنية كون الصورة مرتبطة بالخيال والذي يعتبر جوهر ومادة الصورة الشعرية لذا لا يمكن الاستغناء عنه في الشعر الغنائي ، وإلا كيف يمكن للشاعرة أن تفصح عن الصورة التي تريد ان تبرزها لو لم يكن هناك صيغ للتوافق بين الخيال والصورة ، كي تتولد المادة في ذهنها من خلال الرؤيا والتفاعل مع الطبيعة المحيطة بها ، كاستجابة لتوق مشاعرها وقدرتها على تطويع واستخدام المعاني التي تؤدي الى تجلي الابداع في نتاجها . وهذا ما نلمسة في قصيدتها (كف مارد ) :

في قبضتك يتكور الكون

وتولد الاجرام والنجوم

وتراني جالسة على نجمة الصباح

أنتظر كفك

تمشط شعر النجوم

تضمني اليها

وأستيقظ أميرة صغيرة

على كف مارد …

وفي الختام أقول:

تعتبر الصورة الشعرية لدى الشاعرة أميرة عيسى من أهم العناصر التي تقو عليها القصيدة ،وتلعب دوراً أساسيا في جماليتها،وقدرتها على كشف المستوى الغنائي لقصيدتها لتكون من بين أكثر العناصر قدره على كشف مكنونات القصيدة الغنائية والجمالية، والتي تقوم على مجموعة من الأسس والمكونات التي تمنحها القدرة والقوة في التعبير ، ومن بين العناصر الأخرى اللغة والعاطفة والخيال،ولعل هذا الأخير هو من ابرز المكونات التي تمنح الصورة هذا الوهج الجمالي، فهو يلتقط ببر اعة واقع الحياة اليومية وينقلها بشكل فني جميل، فإذا كان الرسام يستعمل الريشة والألوان في رسم صوره إلا أن الشاعرة أميرة عيسى إستعملت الألفاظ والمفردات كي تصبها في قالب فني مؤثر يترك أثره في المتلقي، فقوة الصورة الشعرية وجماليتها تتمثل في مدى قدرتها الأيحائية على التعبير عن المعاني، كي تستفز المتلقي إيجابيا فيتفاعل مع النص الشعري ويتاثر بدلالاته وحمولته الوجدانية . ولعب الخيال في قصائدها – القسم الأول من مجموعتها هذه (دانتيلا الأحلام) – دوراً أساسيا، في خلق هذا التفاعل الجميل بين النص والمتلقي . فكلما تمكن الشاعر (الشاعرة) من توظيف ملكة الخيال في التصوير الشعري في القصيدة الغنائية ، كلما كان لذلك التوظيف آثاراً عميقة في نفوس المتلقين .

فشكراً للزمية الشاعرة أميرة عيسى على هديتها القيمة لي والتي جعلتني كمتلقي أتمتع بفيض غنائيتها وريشتها التي رسمت صوراً جميلة .

نزار حنا الديراني

شاعر ،ناقد و مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى