أدب وفن

جوع../ بقلم الكاتب محسن الطوخي


…..

جوع
………
لم أنتبه على مدى شهر من ارتيادى المكان إلى الكوخ الخشبى الغارق فى الإهمال عند المنعطف . اكتشفته عندما لاحظت صباح اليوم ذلك الرجل الممصوص يعتلى سلماً خشبياً متهالكاً , منهمكاً فى إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم . بوسعى رؤية هيكله الضامر من النافذة المكسوة بالسلك مانع الحشرات وهو يمتص لفافته المعلقة بزاوية فمه . والدخان المنعقد فوق رأسه . اكتشفت بعد مرور ساعات أن الكوخ مسكوناً حين تحرك الباب بقدر مايسمح به السلم الخشبى وبرز رأس امرأة . نادته فتوقف عن العمل : تعال كل لقمة . جفف جبهته بظاهر ساعده , ألقى نظرة على الصبى المقعى فى الجوار يعالج خلط المعجون ومالبث أن عاود عمله . تناثرت بقايا الطلاء القديم فتوارى رأس المرأة , وبقى الباب موارباً . توقف الرجل وهتف بالصبى : رح كل لقمة . أجاب الصبى دون أن ينظر إليه : لست جوعاناً , واستمر فى خلط المعجون , عاود الرجل عمله فى إزالة الطلاء القديم فتلوث الجو بالغبار . بحلول الظهر بدأ الرجل فى سحب المعجون . بدا الكشك بعد إزالة الأوساخ فى هيئة مغايرة . أشبه بلوحة تجريدية وقد لاحت الشقوق والفتحات التى تعرت فى البدن المتآكل . تمر سكين الرجل فتطمس الشقوق وتكسو الخشب المهترىء بطبقة صقيلة من المعجون . احتكت قدم الرجل بجدار الكوخ , فتح الباب وأطل رأس المرأة : تعال اشرب شايا ساخنا , وبلل رأسك . توقفت السكين , واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم . لحظة وعادت السكين لسحب المعجون , ثم مالبثت أن توقفت . هتف الرجل بالصبى القابع : هيا انصرف , انتهت نوبة عملك . لم يغير الصبى جلسته , واستمر فى خلط المعجون . هتف الرجل بصوت أعلى : انصرف , لم أعد بحاجة إليك . قال الصبى دون أن يرفع رأسه : أريد أن أبقى . تميز الرجل غيظا : قلت انصرف . طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين تجاه الصبى فلوثته , فر الصبى فعبر الطريق واستمر فى العدو للناصية القريبة , وأقعى . ركل الرجل الباب نصف المفتوح بغضب فكاد أن يحطم رأس المرأة . طاشت ضربات السكين فعرت مواضع سبق تكسيتها . نفخ الرجل دخان لفافة جديدة ولم يكف عن استبدالها كلما زوت . والمرأة ماعادت تطل . عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهوا بكسائة الجديد . صار متأهبا لاكتساب الألوان , بينما نال التعب من الرجل . انحنى عوده , وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليخ . راح يتحرك القهقرى مبتعدا ليلقى نظرة جانبية متفحصة . ساعداه المحمصان يمسحان حبات العرق فيلطخان الوجه . والمرأة بصت بصة أخيرة . التفت الرجل إلى الناصية . كان الصبى لا يزال مقعياً . نفخ الرجل فتوارت المرأة مسرعة . غادر الرجل محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته . ما أن ابتعد حتى نهض الصبى واقتفى خطواته تاركا مسافة أمان .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى