أدب وفن

المحطة الأخيرة/ *ابراهيم ياسين

المحطة الأخيرة

“التقاعد، مقبرة الإنسان فوق الأرض”

قالها (أبو حسان) وهو يذرع أرجاء الغرفة ذهاباً وإياباً. لا يدري كم مضى من الوقت على إيداعه دار المسنين. فالزمن بالنسبة إليه قد مات منذ لحظة عبوره باب المدخل. ما قيمة الوقت طالما أنّك ترجّلْت إلى المحطّة الأخيرة؟ حتى الساعة التي كان يعاينها ببصره الضعيف لم تعد أبداً إلى مكانها مذ فارقَت معصمه آخر مرةٍ حين حلَّت محلها حقن الأمصال المتجذّرة في أوردته العتيقة.

على الرغم من منسوب اللامبالاة المرتفع الذي يحيط بالعجوز من كل جانب، يبقى وقت الزيارات اليومية الجرعة الوحيدة المحفّزة في كل يوم. يقف على واجهةٍ زجاجية تطلّ على الساحة بانتظار أن تقع عيناه على وجهٍ مألوف يعيد إليه بعض النضارة المفقودة. كان حين يفشل بالعثور على أحد، يلصق وجهه أكثر بالزجاج ظناً كمه أن ذلك من شأنه مضاعفة قدرته على التحديق، ثم يعود أدراجه خائباً بعد أن بخل عليه يومه بملاقاة أحد أحفاده إذ قَفَزَت آماله قفزةً واحدةً متخطّيةً جيلاً كاملاً من الأولاد وصولاً ‘لى جيل الأحفاد. وإذا ما سُؤل عن سبب هذا العبور، أجابَ بنبرةٍ كسيرة:

-لا أمل يُرجى من من أودعوا أبيهم هذا القبر الكبير.

يوم حضر حفيده (أحمد) ابن ولده الأكبر (حسان)، ازداد وجهه التصاقاً بالزجاج أكثر فأكثر. كان كمن يصفع عينيه بهذه الحركة ليتأكّد من حضوره في عالم الواقع لا الأحلام. يُمسك على مضضٍ دمعةً تريد الإفلات من محجرها وهو يراقب المراهق الشاب يدلف من باب الدار قبل أن ينقضّ عليه عناقاً وتقبيلاً.

كان بين الضمّة والأخرى يحدّق بالفتى ممسكاً كتفيه ليتأكّد من المشهد، ثمّ ينخرط في جولة ضمٍّ أخرى بعد أن يتأكّد من مصداقية عينيه الهرمة.

أراد الفتى أن يقول شيئاً، لكن انفعالات العجوز كانت تحبط محاولات الكلام في كل مرة. أخيراً حضر من يسأل عنه. اسْتلّ هاتفه الهرم كصاحبه لتوثيق اللحظة التاريخية، وهمّ إصبعه المجعّد بالتقاط السيلفي لولا أن قاطعه صوت سيدةٍ وقور كانت قد حضرت مع الحفيد وأصدقائه:

-إلى الباص يا أحمد ! انتهَت رحلاتنا الميدانية. حان وقت العودة إلى المدرسة.

أدار الفتى ظهره متوجهاً إلى الحافلة، بينما بقيَ (أبو حسان) مسمّراً في مكانه يراقبها وهي تبتلع الدرب من تحتها رويداً رويدا.

حين عاد إلى غرفته، انتبه إلى أن تطبيق الكاميرا مازال مفتوحاً. رفعَ الجوال لأعلى، أجبر شفتيه على ابتسامةٍ ساخرة، قبل أن يطبق إصبعه على زر التصوير مرسلاً إلى ذاكرة الجهاز صورة سيلفي…التقطها مع وحدته.

*شاعر و قاص -لبنان


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى