أدب وفن

حلزونيّة حلّ العقدة في رواية “رجل من أرق” لنبيل مملوك

يوسف طراد *

سمفونية التمزّق والموت، صدحت من رواية “رجل من أرق” للكاتب والناقد نبيل مملوك، لتغني الموت والجنس، وتهتف للبراءة بإخلاص مرضي وللخطيئة بتعشّق مجنون.

اشتعل الحزن، وارتعشت الأجساد، في عاصفة اليأس. والتقت نهاية الرواية بالطفولة حين ضاعت الشيخوخة، وتوارت الحياة في أقانيم الموت العميق.

إنّ “نورا” جسد الشهوة والموت، انبعث في شاشات الحواسيب والهواتف المحمولة. يرهص بولائم أخرى للجسد، فيبعث الحرارة في عروق المراهقين والمتعطّشين إلى الجنس، ويضخّ هرمون “التوتريستيرون” في عروقهم، والدمع والكآبة في جدران مخيلة الكاتب. هذه الكآبة التي صارت توقعاً ونغماً شجياً له، وانبجاساً وأرقاً لكلّ طالب جنس من دون حبّ، قد وحّدت العالم في النظام الرقمي، وتحوّلت أشواك هذا النظام إلى ذبذبات التمزّق المجتمعيّ. وكأنّ كلّ شيء ينتهي ويبدأ من جديد، لكن بأكثر جشاعة للمال.

إنّ سرد الكاتب ذاكرة للخطيئة والشهوة والموت، وقد أصبح هذا السرد لدى القرّاء حلماً أسطورياً، ينسجم مع براءة مصطنعة في غياب الرفض العفويّ لكلّ شواذ في هذا الوجود، تجاه الخطيئة واللّذة المحرّمة واللّعنة والخوف. لذلك لم يكتب المؤلّف على غلاف الرواية كما كان يُكتب على أبواب صالات السينا : “ممنوع القراءة لمن هم دون الثامنة عشرة”. لأنّه سيّان إن كتب وإن لم يكتب، فهذه الأمور أصبحت مُتاحة لكلّ صغير وكبير بكبسة زرٍ أو لمسة شاشة جوّال. يحضر أمامنا هنا قول للمؤلّف ورد في الصفحة 23: “فالجسد كوكب يتغذّى من ضوء الرغبات”.

لم ترتدِ “نورا” من الجسد سوى الفرح النابض على وجهها، المنحوت على جسم اعتاد على المداعبة الذّاتيّة والأسرار التي ولدت صغيرة، وكبرت لتصبح بحجم سجن على قياس الوطن. فهل أيقظ السرير صحوها الغافي، وأصبح للجسد صوتٌ خارجٌ من لغة الآهات الموحدّة بين جميع البشر كلغة الموسيقى؟: “فلقد كان هدفي واضحاً أن أخلق صوتاً لجسدي…” (صفحة 24).

في سابقة روائيّة، تم دمج العلاج النفسي بالانسحاق التام والتلاشي مع لذّة الجسد، وبضراوة إيقاع الموت. ووضعتنا أمام العدل المجتمعيّ المطلق، محطمة بذلك التقاليد التي قدّسها الشعب ولم تُفرض من قبل الخالق. لكنّها سابقة من حيث هي انعكاس لفقدان مأساوي للقيم، وعذاب في ضمير كلّ كاتب كنبيل مملوك يحاول الإتّجاه نحو العلى في مغامرة كتابيّة إطلاقيّة ناجحة، لكنّها اصطدمت بوجه عصف وتحطمت على جدار مآسي ضحايا الرابع من آب.

للقصّة جرح عميق، فقد عرضت من خلال الملف (111) العائد لبطل الرواية، ثنائية اللّذة والألم في علم النفس والاجتماع، من خلال مقاربات فلسفيّة، يُستدل على إرهاصاتها ونتائجها، في طبيعة العلاقات القائمة بين أطراف الصراع العقائدي المكبلّ وموجة التحرر من كبت الجسد.

وضعنا المؤلّف بين أذرع الفكرة والفكرة المقابلة، التي أنتجت تفاعلات جديدة، ورؤى مختلفة. فالسؤال المحوري الدائم يظل ينبض في القلب والعقل دوماً: كيف نلجم اللّذة في صراع العقائد، وكيف نحوّل قيمة الحبّ الذّي تكابده الروح من خلال التبادل العنيف لكافة الأفكار، والتي تتقاذف يومياً بين كلّ هذه المبادىء المضادة؟

أخرج نبيل مملوك عقدة الرواية من رحم انفجار الرابع من آب بطريقة حلزونية، مشابهة لنزع سدادة الفلّين العائدة لزجاجة خمر، عندما انغرز فيها المخرز، جاهلاً ما بداخلها، هل هو مشروب للفرح، أم نيترات لتدمير أحلام الشباب.

*أديب و ناقد

المصدر / صحيفة النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى