نجاح سلام سفيرة بيروت الكرامة والعزة والوفاء للأمة العربية
نجاح سلام
سفيرة بيروت الكرامة والعزة والوفاء للأمة العربية
بقلم المحامي عمر زين*
في غياب السيدة نجاح سلام من دنيا الفناء الى دار البقاء، تبقى سيرتها وأعمالها ودورها منارة من منارات الأمة التي نحن بحاجة اليها اليوم وفي كل حين.
السيدة نجاح سلام ولدت في بيروت في بيت جمع الدين والعلم والأدب والفن، فجدها هو العلامة الشيخ عبد الرحمن سلام ووالدها الفنان والأديب محيي الدين سلام. كانت بداية السيدة نجاح سلام في الغناء من خلال الحفلات المدرسية التي كانت تقام نهاية كل عام مدرسي وأولى هذه الحفلات كانت في مدرسة الحسان، وحين اشتهر اسمها في الأوساط المدرسية طلبتها الجامعة الأميركية لإحياء حفل في الجونيورز كولدج وهذه الحفلة أطلقت اسم نجاح سلام في الحفلات العائلية والاجتماعية اللبنانية.
كان غناء السيدة نجاح سلام حتى هذه المرحلة ١٩٤٤ – ١٩٤٥ من منطلق الهواية، إلا أن الوالد الذي كان يرغب في أن تتابع ابنته التعليم المدرسي، وعدها بالسماح لها باحتراف الغناء وأيضاً بمرافقتها إلى مصر (حلم كل فنان حتى هذه الأيام) إن هي تفوقت بدراستها. وهذا ما حدث حيث رافقها إلى القاهرة كما وعدها في العام ١٩٤٨ وهناك عرفها على كبار الملحنين الذين سبق لها أن شاهدتهم وهي طفلة في منزل والدها. ولكن لقاءها معهم هذه المرة وهي صبية وصاحبة صوت جميل، فتعرفت على سيدة الغناء العربي أم كلثوم والموسيقار فريد الأطرش وشقيقته أسمهان والشيخ زكريا أحمد وغيرهم الكثير، فتركت في نفوسهم أثراً طيباً انعكس بعد ذلك ألحاناً وأعمالاً غنائية جمعت بينهم وبين صوت السيدة نجاح سلام.
وتعود نجاح مع والديها إلى لبنان ومن أبرز أهدافها تحقيق النجاح في أول أعمالها الغنائية وتحقيق الشهرة حتى يلتزم من قابلتهم بالقاهرة بما وعدوها به.
وفي العام ١٩٤٩ ولحساب شركة بيضا فون أهم شركات الإنتاج في ذلك الزمان تسجل مطربتنا الكبيرة أول أعمالها “حول يا غنام” من كلمات وألحان إيليا المتني، وأغنية “يا جارحة قلبي” من كلمات وألحان سامي الصيداوي، وبهاتين الأغنيتين انطلقت مسيرة نجاح سلام الاحترافية الناجحة مع الملاحظة أن هاتين الأغنيتين تحولتا مع مرور عام على انطلاقتهما إلى تراث غنائي تردده الأجيال المتعاقبة وأيضاً كثير من الأصوات الغنائية.
بعد أن أمضت فترة خمسة أشهر في سوريا وصقلت موهبتها لحفظ الأدوار والموشحات والإيقاعات على أيدي كبار الأساتذة أمثال عمر البطشي وعلي الدرويش وسافرت نجاح سلام برفقة والديها إلى العراق حيث تمت دعونها للاشتراك ولتقديم أعمالها على أهم المسارح في بغداد حيث تعرفت على كبار العائلات العراقية بعد أن أمضت أربعة أشهر في أرض العراق.
بعد ذلك زارت رام الله في فلسطين وقدمت بعضاً من تسجيلاتها إلى الإذاعة ثم عادت إلى سوريا حيث ازداد انتشار صيتها في الدول العربية، وخلال هذه الفترة لم تكن السيدة نجاح سلام تقدم أي نشاط فني في لبنان نظراً لحساسية مركز عائلتها آل سلام ومنصب جدها العلامة الشيخ عبد الرحمن سلام، ومن هنا تقول إن الانطلاقة المبكرة لنجاح سلام بدأت في سورية.
طلب المخرج حلمي رفلة من المطرب فريد الأطرش أن يعرفه على والدها بهدف اشتراكها في فيلم “على كيفك” مع السيدة ليلى فوزي وزوجها عزيز عثمان والفنان إسماعيل ياسين، وهنا أبلغ الوالد أنه ليس لديه شروط مادية بل أخلاقية وهي عدم قيامها بتصوير مشاهد تتضمن خروجاً عن القيم ا لأخلاقية المحافظة. فوافق المخرج وكان هذا الفيلم انطلاقة السيدة نجاح سلام السينمائية. وثم تزوجت من الفنان والمخرج الأستاذ محمد سلمان وأنجبت منه سمر وريم وكرمها الرئيس إلياس الهراوي في قصر الرئاسة ومنحها وسام الاستحقاق اللبناني.
وفي العام ١٩٩٥ دعتها جمعية عمالقة الفن العربي في أميركا ومنحتها جائزة أوسكار، وفي العام ١٩٧٤ اندلعت الحرب اللبنانية فسرق منزلها ونهبت محتوياته فسافرت إلى القاهرة وأقامت فيها إقامة دائمة حيث تم تكريمها بمنحها الجنسية المصرية وأطلق عليها لقب «عاشقة مصر»، (لقد شاهدتُ أم كلثوم تقوم بزيارتها عدة مرات في سكنها الوالدي في بناية الطويل حيث كان سكننا مواجهاً له في محلة البسطة الفوقا في بيروت).
ولا بد أن نذكر اليوم رسالتها التي حمَلتُها معي الى القاهرة في ذكرى مئوية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر التي دعت اليها اللجنة القومية المنظِمة للمئوية وذلك الى الحفل الفني الغنائي الكبير الذي أقيم على مسرح دار الأوبرا المصرية (المسرح الكبير) والتي افتتحته آنذاك الراحلة نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقاً في مصر القاضية تهاني الجبالي والتي انفردت جريدة (اللواء) لاحقاً بنشرها مشاكةً منها في تلك المناسبة الوطنية والقومية واليكم الرسالة:
“من نجاح سلام إلى الزعيم الخالد جمال عبد الناصر (في مئوية مولده)
السيدات والسادة،
قد يستغرب البعض منكم تقديمي هذه الرسالة، وقد يتساءل ما علاقة «مطربة» بذكرى مئوية ميلاد الزعيم، حتى تتوجه إلينا في هذا الحفل بمثل هذه الرسالة؟
الحق أقول لكم بأن الزعيم جمال عبد الناصر كان يقدر الفنون، ويؤمن بأن الأغنية وخاصة الوطنية والقومية لها دورها في رفد الأمة بطاقة كبيرة من الاندفاع والحماس عندما كان الموقف السياسي وحتى العسكري يتطلب ذلك.
وكنت وما زلت اعتبر ذلك واجباً قومياً عربياً لما للأغنية وانتشارها من تأثير على جماهير الأمة.
فعندما رفض الوفد البريطاني المشترك مع وفد صندوق البنك الدولي تمويل مشروع بناء السد العالي، سارعت إلى إطلاق أغنية باللهجة اللبنانية مطلعها:
اليوم اليوم اليوم النصر
عصرنا قلب الأعدا عصر
فجر جديد وعهد جديد
كل العرب بتأيد مصر
ولأن الزعيم الراحل ردّ على عنجهية الغرب بأن أعلن تأميم قناة السويس استكملت الأغنية على النحو التالي:
عبد الناصر يا جمال
للغرب بتعطي أمثال
قالوا السد العالي زال
قلهم .. أممنا القنال
إن أغنيات مرحلة بناء السد العالي وما قبلها من مراحل عرفتها الأحداث الوطنية التي شهدتها مصر العربية، ترافقت دائماً مع عشرات الأغنيات الوطنية والقومية التي عبرت عن أماني الجماهير العربية.
وأن وجهة نظري الشخصية من حضور الفنان إلى جانب قيادته السياسية التي تعبر عن تطلعات الشعب وتعمل لنهضته وتقدمه يعني أن الشعر والموسيقى والغناء لا يقل عن الرشاش والمدفع في ساحات الوغى بدليل أغنيتي عرفت بإسم «يدي الله» والتي عرفت باسم «أنا النيل مقبرة للغزاة» وقد حضرت كبند من بنود اتفاقية «كامب دايفيد» (الملحق السري) حيث طلب الكيان الصهيوني منع بثها نهائياً في أي من المناسبات الوطنية المصرية، لما كان لها من تأثير نفسي إيجابي على جنودنا المصريين المقاتلين داخل بور سعيد وعلى الجبهات في حرب 1956 (العدوان الثلاثي).
السيدات والسادة،
لقد كرمتني مصر عبد الناصر وشرفتني بمنحي جنسيتها، وسكنا دائماً على أرضها الطاهرة وتوجتني بلقب «عاشقة مصر» و«صوت العرب» فكل الحب والوفاء لهما.
وهذه الكلمة في مناسبة مئوية ميلاد الزعيم التفاتة وفاء وحب أيضا، لمن أحب شعبه ووطنه العربي الكبير، ولمن كان أول من أطلق الصرخة المدوية «ارفع رأسك يا أخي فقد زال عهد الاستعمار».
أيها الحفل الكريم،
شكراً للجنة القومية المنظِّمة لمئوية الزعيم على اطلاقها المئوية، وسنستمر مؤمنين بثوابت الزعيم الخالد جمال عبد الناصر مع كل الأوفياء العروبيين على الأرض حتى النصر المبين.
نجاح سلام
بيروت في 25/12/2017
ستبقى مدرسة نجاح سلام معيناً ومرجعاً لكل فنانٍ وفيِّ لأمّته.
تغمد الله الفقيدة الغالية بواسع رحمته وأنزلها منزلة الصديقين والأبرار.