أُكْتُب عن الحب / بقلم الروائي محمد إقبال حرب
تُصيبُ كوكبَ الأرضِ تغييراتٌ جذريّة، بعضُها مُدمّر تتمخّض نتائجُه عن أزمنةٍ عجافٍ لسُكّان الكوكب من أَحياء ونبات، وبعضُها خيرٌ وارفٌ يزفُّ إليهم الخيرَ. مع أن الشّقاء يشمُل الجميعَ منذ قرون طوال بانتظار الفرج الذي يُطلق كيمياء غريبة فور حلوله، إذ يتنطّع بعضُ البشر ويستولوا على مقاديرِ الحياة ليصُبّوا جامَ غضبِهم وكراهيّتِهم على الأضعف جسدًا وأكثرِهم مودّةً وسلامًا. للأسف، أصحابُ الأسلحةِ عُشّاقُ القتل والتنكيل يستمتعون بخيراتِ الطبيعة من خلال استعبادِهم لإخوانِهم في الأزمنةِ العِجاف.
لن أُبرطمَ ولن أسترسلَ كونَ الضياع أفقدَني بوصلةَ الاتجاهات للتفريق بين الأحياء والأموات. ما يهُمّني هو إعصارُ الضياعِ الذي أُعانيه، أعني الضَياع الجماعي وليس في شخصي الكريم فحسب، ضياع الوطن وتخبُّطِه في دوّامةٍ تغمُر العالمَ العربي. دوامةٌ انبجست عن إعصارٍ كوني ذهبَ بالقِيم والأخلاقِ الإنسانيّةِ وحفّز المشاعرَ البشريّة البدائية في حِفنةِ كائنات تتحكّمُ بمقاديرِ الكوكب، كما هو مُعلن. لكن في الحقيقة ضمَرت المشاعرُ واستشرى سرطانُ الوحشيّة بأنيابٍ ومخالبَ، البقاءُ فيها للأقوى والأغنى والأكثر دمويّة.
في كآبتي الخاصة الناتجةِ عن عوارضَ صِحيّة مكمورة بابتسامتي الدائمة، وبوسامتي التي تحفّزها كلماتُ الإطراء ولو مُجاملةً في مُعظم الأوقات. ابتسم كونها قناعًا طبيعيًّا يذكّرني دائمًا بالمثل الشعبي “من برّة هالله هالله ومن جّوا يعلم الله”.
تراكُم الكآبةِ العامةِ سرق مني براعةَ الكتابة والتعبير، ليس ضُعفًا بل شعورًا بالعجز عن اصطياد المُفردات ومرادفاتها لأعبّرَ عمّا يدورُ حولَنا وداخلَنا وبعيدًا عنّا. كلّ هذا يحصل وكأنه في أعماقي، ارتدادات زِلزال لا تنتهي. قاموس مُفرداتي يشكو العجزَ أمام سيلِ الدّماء والدمار، المجاعة المُمنهجة من دولة سرطانيّة مارقة تحمل تصريحًا من القوّة الأعظم لإنتاج “نبيذ” بشري من دماء فلسطينيّة وعربيّة.
ما هي الكلماتُ التي تعبّر عن قتل الأطفال؟ وتقطيعِهم إربًا ورميهِم أشلاء. كيف أُعبّر عن مشاعرَ من فقَد أربعين فردًا من أُسرته قضوا أمامه ذبحًا وقصفًا وسعيرًا؟ عن خطةٍ مُبرمجة، مُمنهجة لتدميرِ مدينة كاملة من عدو شرِس مُصاب بأمراضٍ نفسيّة وهوس العظمة التي يشارك الله فيها، كشريك أدنى ينفّذ رغباته في سِفاح وتنكيل مستمرين. بل ما هي الكلماتُ التي تُعبّر عن سعادة “إخواننا العرب” بالقتل الوحشي والمُشاركة بالدعم اللوجستي لتدمير غزّة بعد العراق وسوريا وليبيا ولبنان من قبل، وربما من بعد؟ ما هو قاموس المُفردات التي تصفُ الإبادةَ الجماعيّة في السودان تحت إشراف دول “شقيقة”؟ ما هي التعابيرُ الحقيقيّة، الصحيحة التي تُعبّر عن حقارة الدول “العُظمى” التي أرّقتنا “بعقوق الإنسان”، ودروس الحريّة والمساواة؟ كيف لي أن أتقبّل عنصريةَ الصهيونيّةِ والجنسِ الأبيض وهم يُشيرون إلينا بالـ “حيوانات”؟ وأن الثروات التي تُنهب كلّ يوم كافية لجعل الكوكب جنّةً حقيقة، صودرت بالكامل لرفاهيّة الغرب العُنصري بامتياز؟ ما هي المُفردات والمُرادفات التي تصفُ لذّة الأميركي والأوروبي وهما يشربان نخب العُنصريّة الصُهيونيّة التي تنعتُهم بالغوييم؟ تقطيع جثثِنا والتبول عليها؟ هل من تعابير مُناسبة؟ هل مِن كلمات تُعبّر عن خسارة إنسانيّتي وأنا أُشاهدُ الأخبارَ عاجزًا عن إنقاذ طِفل من الموت عطشًا أو جوعًا في عالم يرمي فائضَ إنتاجه الغذائي في البحار والمحيطات حتى لا تنخفض الأسعارُ؟
قال لي أحدُهم وهو يصف لي علاجًا يُخرجني من كآبتي “أُكتب عن الحُبّ، في عيد الحُبّ، بل كل يوم وابتعد عن الأخبار”.
ألم يُصبح الحُبّ وهمًا بعدما اغتصبه الغربُ مرارًا وتكرارًا، بعدما سلّعوة في أوكار الدَّعارة الاجتماعية والسياسية؟ ها هي محطّات التلفزة الغربيّة تَضِجُّ لمشهد حُبّ إنساني يتبلورُ في إنقاذ قِطّة مُشرّدة في نيويورك أو باريس ويتغاضى عن ذبح أطفال ونساء ورجال في بلادنا بأسلحة صُمّمت في أميركا وأوروبا لإفناء البشر. ها هُم يرسُمون القلوبَ بألوانٍ حمراء غمّسوا فرشاتها بنجيعنا، يُطرَبون لصُراخ الجياع والعطاش تحت الركام وفوقه، داخل وخارج المرافق الصحيّة المدمرة بجبروت شيطاني يتجاوز وحشيّة الخنزير البرّي.
لا لوقفِ إطلاقِ النار!!! صاح زُعماءُ العالمِ المتحضّر وهم يحتسون النبيذَ البشريَّ أمام تلفازٍ يبثّ صورَ تدمير المُستشفيات ويعرضُ أشلاء القتلى بفرحِ النصر… هل من تعابيرَ مُناسبةٍ لتوصيف هذا العُهر؟
تبًا للقلم، تبًا للُّغة… تبًا لجميع الكتّاب والشعراء في عالم قصَف وادي عبقر، فسحقنا ودمّر، داسَنا وتجبّر، اغتَصَبنا وأكثر والعربان يكبّرون