عالم أصم / قصة قصيرة/ بقلم القاصّة هند يوسف خضر – سوريا
عالم أصم
كان المطر غزيراً جداً والطقس شديد البرودة، اعتقدت أن الطلاب سيغيبون عن موعد الحصة الدراسية ، لكن توقعاتي ذهبت أدارج الرياح فقد حضروا جميعاً، كان يوماً
من أيام شهر شباط، من المقرر إعطاء طلاب المرحلة الإعدادية درساً في اللغة الفرنسية، دخل الجميع وجلس أحدهم قرب المدفأة المشتعلة يحاول أن يعانقها كما يعانق المطر الأرض، فقد جاد عليه المطر بوابل لا بأس به أغرق معطفه الوحيد، حدقت به وبحركة عفوية وجهت له سؤالاً: الطقس بارد جداً أليس كذلك؟
الطالب : نعم ونحن لا يتوفر لدينا حطب للمدفأة بشكل دائم
صدمني جوابه لكنني لم أظهر له أي تعبير..
هذا الطالب يتيم الأب منذ عدة سنوات، لديه شقيقان، والدته تعمل كي تقدم لهم مصروف الغذاء والتعليم، بالطبع هذه السيدة هي أم بكل معنى الكلمة فقد نسيت نفسها فقط لتربي أولادها…
جلست مع الطلاب، بدأنا الدرس كالمعتاد على إيقاعات تمتزج بين الجد والضحك من حين لآخر لمنع الملل من التسلل إلى أذهانهم، كان درسنا عبارة عن نص يحتاج إلى ترجمة كما جرت العادة، تضمن الدرس نصائح عن طبيعة الغذاء الذي يجب أن نتناوله لنبقى بصحة جيدة، كُتِب في إحدى فقراته (يجب علينا تناول السمك ثلاث مرات في الأسبوع)
قاطعني الطالب وقال: يا آنسة عم ينصحوا بأكل السمك ٣ مرات بالأسبوع ونحنا ما مناكلو إلا مرة بالسنة )
نظرت إليه وكذلك رفاقه، تابع كلامه:
( يا آنسة بتعرفي شغلة أنا بحب السمك كتير، بموت عليه، بس شو…)
مع هذه المفردات التي خرجت من فمه بصدق وحسرة ساد صمت قاتل وسط الحصة الدراسية، جمدت الكلمات على الأفواه، غصة علقت في حنجرتي منعتني من متابعة الشرح ترافقت بدمعة وقفت في زاوية العين، خانتني المفردات أمام هذه العبارات القاهرة التي تقشعر لها الأبدان، فقر مدقع دفعه أيضاً لجمع أعواد الحطب كوسيلة للتدفئة عندما يسمح الطقس بذلك..
هل يعقل أن تكون أحلام هذا الفتى بتناول وجبة سمك أو قطعة من اللحم؟
هند يوسف خضر..سوريا