أدب وفن

قصة قصيرة / بيت في الجنةبقلم بختي ضيف الله – الجزائر

قصة قصيرة / بيت في الجنة
بقلم بختي ضيف الله – الجزائر

أي يد آثمة فعلت ببيتي الجميل كلّ هذا الخراب، وقد كانت تجتمع فيه  النفوس المتعبة؟ العدو وجه قذر؛ يلقي بظله في نهرنا  الجاري منذ آلاف السنين، يسقينا  ماء عذبا، وشجرةً تنبت بالدهن وصبغ للآكلين، نداوي بزيتها جراحاتنا في العمر الممتد إذا أصابتا طعنات الغزاة. اللعنة على هذا العدو الذي ألقت به الدول الغربية على أرضنا الطاهرة.

بيتي كبير، أبدعتُ في  تصميمه وفصلته تفصيلا، تدخله أشعة الشمس من كل جانب، تخترق نوافذه المزينة  بالستائر البيضاء والبرتقالية، وهي تتراقص على نسمات خفيفة ترسلها شجرة قريبة منها، ترحب بكل زائر عزيز تحفظ اسمه السماءُ والأرضُ.

هكذا تعلمتُ أبجدياتِ الحياة في بيت أبي الذي ورثه عن جدي؛ بناه من الطين وجذوع وأغصان الأشجار،  بنافذة واحدة تطل على العالم، تحرس أرضنا المباركة ذات البساط الأخضر،  يعجب الخيلَ المسوّمة، تمرح عليه دون ملل، أعدها للمعركة الحاسمة لطرد الانكليز. تبا لكل من أفسد عليه عرسه  الذي انتظره طويلا ومن سرق (بارودته) التي حافظ عليها من أول يوم وطأت فيه  أقدام الأعداء.

كان زائري الأخير هو القائد يحي السنوار. تشرفت بزيارته المفاجأة، رحبت به قلوب آل بيتي. جلس على أريكتي متعبا من معركته الطويلة، كما استرحتُ أنا عليها قبل المغادرة إلى مكان مجهول، والقذائف تصب علينا صبا، ترسم وجها كئيبا للمدينة. علم القائد أن بيتي أكرم البيوت، كأنه يعرفني، ربما كان جده صديقا لجدي، يحبان الصافنات الجياد، يحرصان على تربيتها، ويجنيان الزيتون في كل سنة، أو سلكا طريقا واحدة وهما فاران من العصابات الصهيونية، محافظان على أعراض النساء اللائي كنّ يحتمين بهما، أو كانت خيمتاهما متجاورتين، يتبادلان الطعام والشراب كما يتبادلان أخبار الأرض المسلوبة.  

كان بيتي مناسبا لصيد المخربين الذين يمرون قرب النوافذ، يزعجون الأحياء والأموات بجرافاتهم  ودباباتهم. يصطادهم من المسافة صفر  بقطعة  مستقيمة (ي س)، تقطعها إلى قطع متناثرة في الشارع؛ يدوسها المارون إلى الآخرة بعد أن ترميهم المسيرات  برصاصها على حين غرّة.

لم يكن الطعام جاهزا، سيدي، خذ كل ما في البيت، لعل خبزا مازال طريا لم يمسه  غبار المجانين وهم يثيرون أرضا كانت هادئة مطمئنة، أو عصيرا طازجا  شربتُ قدرا منه على عجل، أو من حليب أطفالي الذين كانوا نائمين نوما أفسدته كوابيس طائرات سكنت السماء، تحجب  عنّا الشمس والقمر. “فداك بيتنا وأرواحنا وكل ما نملك يا أبا إبراهيم”.

هجم الاحتلال على بيتي وأمطروه بالقذائف دون هوادة ليقتلوا ما بقي فيه من جمال أزعجهم وهم يمرون  عليه دون أن ينتبهوا أن  ضيفي  كان فيه، يمد رجله عزيزا مكرما، يرد  عليهم بكل ما يملك من قوة وصبر، كأن بيتي فلسطينُ كلها، يدفع عنها الأذى الذي أصابها من شياطين يسرقون التاريخ والجغرافية.

حين أصابته طلقةٌ فأدمته.. استراح على أريكتي المفضلة، وقدم اطمأن قلبُه، جاءت مسيرةٌ تتحسس ملامحه، رماها بعصاه..ثم استراحَ منتظرا بيتَه الجديد..    



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى