الوجزيّة و فضاءات المغايرة
الدكتور باسل بديع الزين
يُشير مقال نشرته مجلة نزوى العدد 102 تحت عنوان ظاهرة الكتابة الشذريّة من نيتشه إلى كاينتي إلى مجموعة فلاسفة وكتّاب وشعراء آثروا الاستعاضة عن الكتابات المطوّلة نسقيًا في الفلسفة والروايات والقصائد الطويلة في الأدب. ويُعلّل السبب في هذه الاستعاضة إلى أنّ «الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدّد، وبالتالي الاقتضاب والتكثيف». ويُضيف كاتب المقال «والشذرة كما عبّر الناقد الألماني فريدريك شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظل معاصروه عاجزين في أغلب الأحيان عن فهمه أو تقبله».
وإن التمسنا ذكر مجموعة من الأسماء التي آثرت هذا النوع من الكتابة لاخترنا على سبيل المثال لا الحصر: نيتشه – رولان بارت – موريس بلانشو – إميل سيوران – تيودور أدورنو – ميخائيل نعيمه – إبراهيم الكوني، وقديمًا هيرقليطس وبرمنيدس…
وعليه، فإنّ هذا النوع من الكتابة ليس مستجدًا لكنّه أيضًا غير مؤصّل. وفي هذا السياق يُشير موريس بلانشو إلى أنّ الكتابة الشذرية هي لغة أخرى مختلفة، «لغة تمتلك قوّة تخريبية بحيث يصبح استدعاء الشذري هو التفكير في هذه الكتابة من دون الرجوع إلى أحد». (راجع مقدمة كتابة الفاجعة التي أعدّها معرّب الكتاب عز الدين الشنتوف)، ويُضيف بلانشو: «لا تحيل الكتابة الشذرية إلى نظرية، ولا تتيح الفرصة لممارسة قد تتحدّد بالانقطاع. إنها تطّرد وهي متقطعة، ولا تستأثر بالسؤال أثناء تساؤلها، بل تعلّقه لا جوابًا… ولكي يتحقق التشذير عليه أن يتخلص من الاتساق القوي الذي يُميّزه، ولا يكون ذلك بنظام متناثر ولا بالتناثر من حيث هو نظام، بل بتقطيع ما لم يوجد مجموعًا قط، وتقطيع ما ليس بوسعه أن يأتلف في أيّ حضور مستقبليّ كيفما كان».
بهذا المعنى، تمتلك الكتابة الوجزيّة عناصر تنظير متفلّتة لا تحكمها بنية بعينها ولا يحكم مقامها نسقٌ محدّد. وإذا كانت البنية الشذريّة أو الكتابة الوجزيّة تسعى إلى التفلّت من كلّ نسقيّة ممكنة، فهذا لا يعني أن تتخلّص من كلّ ضروب التفكّر ورصد إمكانيّة المذهبة من خلال تشكيل بؤرة إمكان تسمح بالتفلّت الدلالي وتُعين على التشرذم وتفصح عن التفكك وتدعو إلى التخلّص من الجمود العقلي والرصف المنطقيّ. من هنا يتأتى بالتمام دور الأدب الوجيز.
بوضوح أكبر، نرى أنّ التسويغات التي وَسمت هذا النوع من الكتابة كانت تسويغات راهنيّة غير مرتبطة بتدبّر فكريّ مكين. وعليه، فإنّ سعينا إلى بلورة مذهب أدبيّ جديد يأخذ على عاتقه وضع بنية محكمة لماهية هذا النوع من الكتابة هو سعي محفوف بمخاطر ليس أقلّها التفريق الدقيق بين بنية تملك منظوراتها النقدية وآليات كتابة محددة وسبل تعبير متقنة وفضاءات إمكان واضحة وغايات تفكريّة مرصوفة بعناية، وبنيان مرصوص لا يحفل بالمغايرة ولا بالتجاوز. بعبارة أخرى، ينبغي لنا أن نفرّق في مسعانا بين نسق مغلق وبين نسقيّة تحكم بإتقان جملة من الطروحات المغايرة التي تروم التجاوز ضمن إطار نظري – عمليّ يجعل الخطوات مدروسة والأبعاد محسوبة والتطلعات بيّنة.
من هذا المنطلق، جهد الأدب الوجيز في تأصيل هذا النوع من الكتابة بوصفه سعيًا حثيثًا إلى بلورة مذهب أدبيّ جديد يكون قوامه الوجز مقرونًا بجملة شروط تؤسّس بدورها لمنظورات نقديّة مغايرة، منظورات تعتمد مفاهيم جديدة وتحكمها قواعد مفتوحة وآليات تعبير متجانسة.
لننعم النظر قليلًا في الومضة. الومضة وإن كانت تروم تجاوز الخيال السائد والتثوّر على فضاءات القول السابق، إلا أنّها لا يُمكن أن تُطلق على عواهنها ذلك بأنّ المنظور النقديّ المؤسِّس يجب أن يبنى على اعتبارات نظريّة محكومة بدقة كي لا نبقى أسرى التفلّت والتكهّن. وبمزيد من التفصيل نقول: الومضة اجتراح معرفيّ تخييلي وطاقة توليديّة بديلة لا تركن إلى أشكال جاهزة إلا أنّها لا تعدم شكلها الخاص ومنظوراتها المتعددة بدءًا من التقيّد بعدد كلمات بعينه مرورًا بتعيين المقصود بالتكثيف وطاقة المفردة وتحديد فضاءات مغايرة للإيقاع وتقديم تعاريف طريفة ومبتكرة للدهشة وعنصر المفارقة.
مما تقدّم، نرى أن التنسيق لا يعني النسق المغلق، وحشد القواعد لا يعني كسر إمكان التفلّت، ورصف الأسس الفلسفية لا يعني إعدام الحرية في التعبير، إذ جلّ ما في الأمر أن يجري التأسيس لنوع أدبي جديد يعيد لمّ شتات الوجز السابق على منظوراتنا وصوغ بنيان نظري يمكّنه من التفرّد في الطرح ويفسح في المجال أمام منظورات نقدية جديدة بالتمام.
الكتابة الوجزيّة كتابة تأصيلية تجديدية، تصل تالد ما تأصّل على نحو غير وافٍ بطارف ما تولّد نتيجة الحاجة المجتمعية في المآزق الفكريّة والطفرات العلمية وحاجة المخيّلة إلى من يفتّق إمكاناتها ويجترح آفاقها الموصدة نتيجة الإسراف في اجترار المنظومات السابقة. وفي هذا الإطار، يأتي الإيجاز ليمنع الشطط وليكسر القوالب الجاهزة والأفكار المعلّبة، أي يأتي الإيجاز ليمنحنا القدرة على التجاوز من خلال إصاخة السمع إلى نداءاتنا الداخلية، إذ كلّما اعتمل الانفعال صرعه الوجز وصقله وهذّبه وأطلق إمكاناته التكثيفية لتصيب هدفًا محددًا بعيدًا من كل احتمالات الإسهاب التي قد تضلّ هدفها. الإيجاز حشد الإمكانات ورصف الطاقات في سبيل هدف محدد لا يسمح للكاتب بأن يحيد عنه.
بوجيز العبارة، يمتلك الأدب الوجيز جملة قواعد صارمة لها مداميكها التنظيرية ومسوّغاتها الواضحة وذلكم ما سنأتي على تفصيله في المقالات المقبلة.
*عضو ملتقى الأدب الوجيز.