أدب وفن

مارادونا و الإجتياح و تلفاز صغير …قصة قصيرة بقلم الدكتور طارق عبُّود

قصة قصيرة بمناسبة ذكرى #الاجتياح الإسرائيلي للجنوب في 6/6/1982..

………….

كان العام الدراسي في أيامه الأخيرة.انتهينا من تشييد الخيمة التي نقيم فيها كل صيف على سطح البيت الجديد. كانت رائحة القصب الأخضر قويةً ومغريةً،تتسلل في الجهاز العصبي، فتقيم فيه عمرًا. كنتُ وإخوتي نبذلُ جهدًا جميلًا كأننا نبني.. قصيدةً، أو ربما قصرًا صغيرًا على قدر طموحنا، ليس كالذي يتخذه الزعماء والرؤساء للإقامة الصيفية. فهنا الخدمة ذاتية، لا خدم، ولا مواكب، ولا من يواكبون.. وقد تكون مضطرًا لتنزل على السلّم الخشبي، وتصعد مراتٍ عديدة، وكانت هذه المهمة في السنوات اللاحقة على الأصغر سنًّا، كان أخي الصغير “علي” يتحمّل هذه المشقة دائمًا. كانت كل ليلة صيف نقضيها بين جدران القصب تعادل عمرًا من السّكينة والجمال.
أذكرُ أنّنا لم نهنأ في الإقامة الصيفية فيها إلا أيامًا قليلة. “الأستاذ يوسف” كان مشغولًا بحفظ أسماء الفرق في المجموعات الست لكأس العالم في إسبانيا، بعدما قصّ هذا الجزء من الصفحة الرياضية في صحيفة “#السفير”. قضينا ليلةً مع القمر، اعتقدتُ لفترة أنها هي الليلة الأخيرة التي وردت في حكاية ألف ليلة وليلة.
ولأنّ أوقات الفرح قصيرة دائمًا.. سمعتُ عند التاسعة صباحًا، من المذياع خبر محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن. لم أقدّر تداعيات ذلك. فما زلتُ مأخوذًا برائحة القصب، وبالحدث العالمي القادم بعد أيام قليلة، #فكأس_العالم في #إسبانيا ستبدأ الأسبوع القادم.
بعد ثلاثة أيام.. قصف عنيف على #الجنوب. الأصوات تقترب أكثر فأكثر. الطيران الحربي لا يغادر السماء.
كانت الأحداث تمرّ بسرعة. عند العصر سمعتُ صوت سيارة أمام البيت، كان أحدهم يقول “صاروا بالقُليلة” لم أكن أعرف كم تبعد هذه البلدة عنّا، حسبتها بعيدة جدًا. ولكن ملامح الشاب الثلاثيني كانت توحي بالقلق الكبير.
صباح اليوم التالي كانت القرية تغلي، “صاروا بـ”#بصور” وما هي إلا ساعات قليلة حتى كنتُ وجهًا لوجه مع أول دبابة ميركافا أشاهدها في حياتي. كان الرتلُ آتيًا من طريق الحوش، لم تستطع الدبابة العملاقة أن تمر في الشارع الصغير، حطّمتْ حائط الكدّان بين بيت أبي عقيل وبيت أبي حيدر. هرولتُ مسرعًا إلى البيت، وصورة الدبابة لا تفارق خيالي، كأنها إحدى الوحوش التي كانت تهاجم الكوكب في مسلسل “غراندايزر” لكن أين هو دوكفليد؟ لينقذَنا من هذا الوحش المخيف؟ لم أكن أعلم انّ “غراندايزر وكوجي وهيكارو” كانوا #أميركيين أيضًا. لقد استفرد بنا الوحش إذًا.
وصلتُ إلى البيت لاهثًا. أصوات جنازير الدبابات والملالات تقترب. الأرض ترتج غضبًا، وربما خوفًا ايضًا.
الرتل آتٍ من “المحافر”. إنهم يتجّهون شرقًا على الشارع العام،بموازاة بستان الحاج حسين. منذ وصولهم، كانوا مرعوبين من البساتين.
وقفتُ مع إخوتي وأولاد الحارة نسترقُ النظر إلى عشرات الآليات تدنس أرض قريتنا مرة أخرى، يفصل بيننا وبينهم، جلّ ليمون. كان الرتلُ مؤلفًا من خمس آليات، يتركون مسافة بين المجموعة والأخرى. لعلّ ذلك تكتيك عسكري، لا أعلم. الذي أعلمه الآن، أنني وضعتُ في سجل إنجازاتي أمام أصدقائي فيما بعد، أنني شاهدتُ الدبابات بأم العين.
كان الناسُ مذهولين من المشهد. في الاجتياح الماضي، تركنا القرية قبل وصولهم. هذه المرة، لم نشعر إلا وهم أصبحوا بيننا. ثمة شعور ضاغط بالقهر. لم يستطع أحد تفسيره، هي تجربة جديدة، نحن وهم، وجهًا لوجه. أين اختفى المسلحون؟ لا أحد يملك إجابة بعد. الصدمة كبيرة. كأنّهم أمسكوا شعبًا بكامله في الجرم المشهود.
الدبابات تواصل عربدتها، وتتقدم شرقًا. صوت رهيب يكسر روتين المشهد. ثمة قذيفة صاروخية أطلقها أحدهم، لتصيب إحدى الآليات، قرب بيت سلامة. الفدائي “فادي أبو الليل” يحرق ملالة M 113 بمن فيها. المشهد تغيّر. أصابت الجنود هستيريا، بدأوا بإطلاق النار عشوائيًا، وفي كل اتجاه. هرب فادي قاصدًا أحد البساتين بمحاذاة بيت خليل نعيم، ولكنه قبل تخطيه السياج الشائك، أصابه الصهاينة بمقتل. لقد نالوا منه. ليس مهمًا، المهم أنه كسر هيبتهم، وسجّل موقفًا تاريخيًا.
…………….

الكابتن لطيف و المونديال…

………..
الصحف تتحضر للحدث الكبير. وصلت المنتخبات إلى إسبانيا، وتوزعوا على المدن.
الأرجنتيني #دييغومارادونا حديث الصحافة والعالم. جيش الاحتلال يجرف التلّة جانب بستان “سعدو” المدفعية تتربص بنا، تصوّب فوّهتها ناحية الخيمة. الجنود يتجولون في القرية. بدأوا يقتحمون البيوت، يفتشون عن الأسلحة، وعن .. الكُتُب. كان الناس يحرقون الكتب السياسية، ويحفرون في الحواكير، يخبئون في حضنها الأسلحة، وكأنهم لن يثقوا بعد اليوم.. إلا بالأرض. انطلقت نهائيات #كأسالعالم، الكهرباء مقطوعة، والمياه أيضًا. الشباب يفتشون عن وسيلة ما. التجوّل ممنوع.. لكنهم وجدوا الحل.
المكان: منزل الأستاذ يوسف غير المكتمل،في منطقة وسطية، ليس بعيدًا من الساحة..وتحديدًا في المطبخ.
الأرض مصبوبة بالباطون. الشباب يتوزعون على الزوايا. الأستاذ وفيق يجلس إلى جانب الشباك.. شاشة صغيرة بالأبيض والأسود، ترقد على طربيزة قديمة. بطارية السيارة، هي الأمل الوحيد، تستريح مزهوّةً إلى جانب الباب.
المصري، الكابتن لطيف يشعل المباراة حماسةً. تمرُّ غيمة صيفية، لتخرّب الصورة. نخرج من جو الاحتلال، ونجلس في #برشلونة بين الجماهير المحتشدة على المدرجات.
يطأ #مارادونا أرض الملعب بشورته الأسود الضيّق، وقميص #الأرجنتين المقلمّ. إنه يرتدي الرقم عشرة، تيمنًا #بالجوهرةالسوداء. يختال مهرولًا، صدره منتفخ إلى الأمام. الكرة الأرضية لا تتسع لطموح هذا اللاعب، وليس ملعبًا كبيرًا وأنيقًا فقط. يأخذ الكرة فيلاعبها، فتخفق قلوب الملايين، وتكاد المدرجات تترك أمكنتها لتقترب منه. ما زال الأستاذ يوسف ممسكًا بجهاز الراديو . يتابع تقدّم #جيشالاحتلال نحو خلدة، وتقدّم #البرازيل في المبارة. يصدحُ صوت #أحمدالزين “قهوة مرة يا اسكندر” على صوت لبنان العربي. يصرخ في وجه العرب: “تغطّوا منيح.. الهوى جنوبي، وبيلسع”. المباراة تحتدم، الفريقان يتبادلان الفرص. ضربة حرة غير مباشرة على بعد ثلاثين مترًا من المرمى. الأسمر “جونيور” يرسل كرةً صاروخية، ترتطم بالعارضة، يركض “#زيكو” ليتابعها في الشباك. مسجّلًا الهدف الأول. يضيف “#سيرجينيو” الهدف الثاني. يسجّل “#جونيور” الهدف الثالث، ويرقص السامبا فرحًا بهدف تاريخي. #مارادونا يفقد أعصابه، يتدخّل بقسوة على لاعب برازيلي، فينال بطاقة حمراء. #راموندياز يسجّل هدف الشرف. تخرج #الأرجنين من البطولة. ونخرج نحن من جو المباراة، لنعود إلى جو الاحتلال.
الساعة تشير إلى السابعة. بدأنا بالتسلل واحدًا واحدًا. وتفرّقنا في أحياء القرية متخفّين من جنود الاحتلال. أصوات الملالات تخترق سكون المكان.الأهالي يتحضّرون للإفطار. لقد مرّ النصف من شهر رمضان. بعد ساعة تبدأ المباراة الثانية. ولكنّ الخروج ممنوع. الساعة تقتربُ من الوقت المحدد. في هذا الوقت يكون الفريقان يتحضران للمباراة، والجماهير تهتف، والأضواء تتلألأ في الملعب. كنتُ أجلسُ على فرشتي مكتئبًا. الساعة تشير إلى العاشرة تمامًا ..المباراة بدأت. أطفأتُ السراج الصغير،خبأتُ دمعةً أفلتتْ من عيني، وخلدتُ إلى النوم …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى