إبحار على متن القصيد / قراءة أدبية للناقد روبير البيطار في قصيدة عبور للشاعر يوسف ركين
عبور …
ضوءٌ خفيفٌ ،
ثمّ يتّسعُ المدى
نمْ لا تخفْ
هي هالةُ الذّكرى
ستطرقُ بابَك المفتوح
للنّفس الأخيرِ
فلا تخفْ
سيمرّ من عبروا
الظّلال ليغسلوا
بالملحِ أهدابَ الحكايةِ
لا تخفْ
سيضيءُ نجمٌ
ثمّ يخبو ،
ربّما
وسيشعلُ الغيمُ الطّريقَ
لتهتدي
هي بعضُ أوجاعِ المخاضِ
ورجفةٌ ،
وسيشربُ الضّوءُ النّدى
ستكونُ حتماً قد عبَرتَ
فلا تخفْ
سَيَحَارُ ظلّكَ في الجهاتِ
وتسمعُ النّاياتِ في
الأفقِ البعيدِ ،
يشدّكَ الماضي إليه
لقبلةٍ
للصّبحِ
للألحانِ
قهوتك التي سكتتْ
لداليةٍ تلملمُ
من عروقِ الصّبحِ
أحلامَ النّبيذِ
وطفلةٍ في العتمِ
تشرق كالصّدى
كلّ القصائدِ مُبْهمة
لا شيءَ في اللا شيء
لا حزنٌ هنا
ستدورُ مثلَ فراشةٍ
وستسأل الأصواتَ
عن لغةِ الطّريقِ
وتختفي
لا صوتَ تسمعه هنا ،
ستكون أمّكَ
حين أشعلها الحنينُ
لتقتفي
مدّتْ إلى الآتي يدا …
قراءة الشاعر والناقد روبير البيطار في نص عبور
جدليّة الأضواء والظلال وانشطاريّة اللغة
في قصيدة “عبور” للشاعر يوسف ركين
تُعبّر القصيدة عن الذّات الشاعرة، هذه الذّات الّتي تستلهم الحلم طريقًا لها. والشاعر في عزلته، يفتّق أسرار العالم بتأمّلاته الشاردة، فيُنشئ من أحلام اليقظة عالـمًا جديدًا ينطلق من لغة جديدة. فلا يعود بعدها العالم أحاديًّا بل ينفتح على كلّ الـممكنات والاحتمالات. ذلك أنّ الطريق الّذي تسلكه المنطوقات الجديدة متعدّدة ومنشطرة، تأخذ طريقها إلى الأعماق حيث كينونة الشاعر الحالم، وحيث العالم الأرحب: “عندما يشعر هذا الـحالِمُ بأنّ العالم يشرّع أبوابه له، فجأةً، حالِمٌ كهذا هو حالِـمُ العالم. يُفتَحُ على العالمِ والعالمُ يُفتَح له. فلا تكون رؤية العالم جليّة إلّا إذا حلمنا مسبقًا بما نراه. في تأمّلات عزلةٍ تعزّز عزلة الحالِـمِ، يتضافر عمقان، وينعكسان في أصداء تدوّي من عمق كينونة العالمِ إلى عمق كينونة الحالِـمِ.” (غاستون باشلار – شاعريّة أحلام اليقظة ص 149). وقصيدة “عبور” للشاعر يوسف ركين، حلـمٌ ضاربٌ في أعماق الـهمّ الإنسانيّ، صاعدٌ نحو الرؤية الجديدة للحياة بعد الـموت. إنّها الرؤية الـمنشطرة الّتي ترى إلى العالم ثنائيًّا (الـموت والحياة ـ العدم والخلود ـ الضوء والعتمة ـ الفرح والحزن ـ الرجاء واليأس ـ الانفتاح والانغلاق ـ البداية والنهاية ـ الوجود واللاوجود ـ الهنا والهناك…). وهذه النظرة الـمزدوجة متناثرة إلى أجزاء أخرى صغيرة متفجّرة داخل القصيدة، لتجعل منها قصيدة التعدّد…
يحمل هذا النصّ همّ الإنسان منذ نشأته: مسألة الـموت. مسألة العبور من الحياة إلى الـمجهول. وقد تبدّت لدى ركين بصورة العتمة الـمتمثّلة بالحياة الدّنيا، في مقابل الضوء الّذي يمثّل الحياة بعد الـموت، حيث العالم “الأمّ”، وحيث الحقيقة الـمشرقة وحيث الاطمئْنان. تتوجّه الذّات الشّاعرة إلى ذاتها كما لو أنّها شخصٌ آخر، معتمدةً ضمير الـمخاطَب، موجّهة الـمواعظ كما لو أنّها تدعو نفسها إلى اتّخاذ قرار: “نَمْ ـ لا تخف…” وهذا الحديث الـموجّه من النفس إلى النفس تميّز، لأنّ فيه كلامًا وإنصاتًا في آن واحد: “إنّ عمليّة الإنصات إلى حديث النفس (s’entendre parler) هي انفعال بالنفس (autoaffection) من نمطٍ متميّزٍ إطلاقًا.” (جاك دريدا ـ الصوت والظاهرة، ص 129) تتّخذ الألفاظ في النسق الّذي تتّبعه دلالات رمزيّة تشير إلى تعارض واضح بين عالم الأرض الظليل في مقابل عالمٍ نورانيّ… واللافت أنّ الألفاظ الـمنتشرة في القصيدة، الدالّة على النور تفوق تلك الدالّة على الظلام. وهذا يعني أنّ الرجاء الإنسانيّ المنطلق من إيمان الشاعر طاغٍ على القلق والخوف، ليغدو عبور الذّات من الحياة إلى ما بعدها، عبورًا للقصيدة نفسها من الظلام إلى الضّوء:
النور الظلام
ضوء خفيف – هالة – سيضيء نجمٌ – سيُشعل – الضوء – للصبح – الصبح – تشرق – أشعلها. الظلال – يخبو ظلّك – العتم – تختفي
واللافت أيضًا أنّ الألفاظ الإشراقيّة هذه، تذهب بالنفس البشريّة من عالمٍ ضيّقٍ محصورٍ إلى عالم مفتوح: “يتّسع الـمدى – بابك الـمفتوح – الأفق البعيد…” وهذه الإشارات الدلاليّة في القصيدة تُحيلنا إلى ما تذكره الكتب الدينيّة. فالانتقال من الظلمة إلى النور أساس الإيمان لدى الـمسلمين كما في الآيات: يُخرجهم من الظلمات إلى النور (البقرة ، 257 – الـمائدة ، 16)، أو ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور (النور ، 40)، أو كأنّما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلما (يونس ، 27).
وهو أساس الإيمان أيضًا لدى الـمسيحيّين: “لأَنَّهَا ضِيَاءُ النُّورِ الأَزَلِيِّ، وَمِرْآةُ عَمَلِ اللهِ النَّقِيَّةُ، وَصُورَةُ جُودَتِهِ” (سفر الحكمة، 7: 29)، أو “وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!” (إنجيل متّى، 6: 23)
ومن خلال هذا التنسيق اللفظيّ، وداخل إيقاع موحّد نحو الكمال والتكامل (تفعيلة الكامل ومتحوّلاتها)، تتّجه القصيدة من أسفل إلى أعلى. فالعبور ليس انتقالًا على جسرٍ مسطّح أفقيّ، بل إنّه عموديّ المسار، صاعد في ما يشبه التجلّي نحو الـمعراج السماويّ. إنّه عبورٌ الومضة (رجفةٌ وسيشرب الضوء الندى)، عبور الاغتسال بالـمفهوم التيولوجيّ اللاهوتيّ (ليغسلوا بالـملح أهداب الحكاية). ومن الألم إلى الخلاص، عبورٌ معاكس من الـموت إلى الولادة (هي بعض أوجاع الـمخاض)…
لذا فقد اختار الشاعر أن يلجأ إلى عالمٍ نورانيّ فيه إشراق النور والنار، ليبعد عن الإنسان الخوف، مكرّرًا في القصيدة عبارة “لا تخف” 4 مرّات. ففي عالم الضوء “لا حزنٌ” “ولا شيء في اللاشيء”، إنّه عالم الاطمئنان والأمان، عالـمٌ فيه أمّك الّتي مدّت إليك يد الحنان والحماية فلا قلق ولا خشية. وتتولّد هذه الخشية من غموض الرؤية، أو من الظلمة الّتي يظنّ كثير من الناس أنّ الـموت شكل من أشكالها. لتأتي القصيدة وتعلن عن الإشراق الّذي ينتظر النفس بعد تولّيها. ويبعد القلق عن النفس الخائفة. ذلك أن اللون الأسود الّذي تمثّله الظلمة “يلد القلق، الّذي يمكن أن يكون هنا شكلًا من أشكال التخوّف، من كون الصور الغامضة تبدو فوحانات مادّيّة مباشرة للعتمة، أي تجلّيات غير محتملة للكنه الّذي تخفيه.” ( جاك فونتاني، سيمياء الـمرئيّ، ص 211). هكذا تكون القصيدة قد دعت إلى الـمضيّ قدمًا إلى الأمام، بدلًا من التراجع والاستسلام. وهذا ما يميّز القصيدة التقدّميّة الّتي تتعامل مع الـمصير على أنّه خيارٌ، وعلى أنّ الـموت لم يعد مدعاةً للخوف والقلق فهو عالم الضوء الـمستمرّ. وبهذا ينتفي الشعور بالتمسّك بالحياة خوفًا من كأس الـموت الـمرّة. يقول ديكارت: “بدلًا من إيجاد سبلٍ للحفاظ على الحياة، اكتشفت سبيلًا أكثر سهولةً ويقينيّة، هو ألّا نخشى الـموت.” (جاك شورون، الـموت في الفكر الغربيّ ص 121). الحياة الظلمة، وجدت لها بديلًا. إنّها الحياة الضوء. لتتعدّى مسألة الضوء والنار مجرّد الرمز، فتصبح التطهّر الفعليّ للذّات. لم يعد من موتٍ، بل غدت الحياة بعد الحياةِ عبورًا، يمثّل الأمل والرجاء، يمثّل الفرح الأكبر، وهنا قمّة الوجوديّة. يقول العالِم باسكال أيضًا: “ليس هناك خيرٌ في الحياة إلّا الأمل في حياةٍ أُخرى، ولا يكون الـمرء سعيدًا إلّا بقدر اقترابه من هذا الأمل (جاك شورون، الـموت في الفكر الغربيّ ص 127).
وتتعدّى مسألة الضوء والنار مجرّد الرمز، لتصبح التطهّر الفعليّ للذّات. فالنار الّتي كانت تمثّل العذاب والجحيم ارتقت في قصيدة ركين لتغدو مكانًا للتطهّر، والـموت الجميل. وصورة النفس العابرة وهي تدور حول الضوء كالفراشة، ” لا شيءَ في ” اللا شيء ”لا حزنٌ هنا / ستدورُ مثلَ فراشةٍ …” هو الـموت الـمرتجى، لأنّه عبورٌ حتميٌّ إلى النور القويّ. يغدو معه الاختفاء أيضًا رجاء ومطلبًا: “وستسأل الأصوات عن لغة الطريق / وتختفي…”
يمكننا القول الآن، إنّ حالة النار بحدّ ذاتها، انشطرت أيضًا، فدخلنا جدليّة النار في دلالاتها الـميتافيزيقيّة والروحيّة: فالنار الّتي تطهّر وتضيء هي النار نفسها الـمدنّسة الّتي تحرق النفس في الجحيم. “إنّ النار تغدو جدليّة في جميع خصائصها الداخليّة… إنّ الالتهاب ليحدث إلى الحدّ اللازم لحدوث التناقض.” ( غاستون باشلار، النار في التحليل النفسيّ، ص 100) وبهذا تكون مركزيّة القصيدة، ومعادلة الثنائيّة الضدّيّة قد نُسفت، فتشظّت القصيدة وتناثرت إلى جدليّات متعدّدة داخل الاتّجاه الواحد، فبات متوزّعًا متناقضًا في ذاته، منفصلًا منقطعًا متمزّقًا مخترقًا: فما معنى هذا الأمر؟
هذا الانشطار الدائم، وهذه التوالديّة الـمستمرّة داخل القصيدة، أو داخل اللفظة نفسها، وهذه الحركة التكاثريّة، تحيلنا إلى توافق مؤكّد بين فلسفة القصيدة القائمة على لا نهائيّة الإنسان، من خلال عبوره إلى الضوء الأبديّ، وإلى لا نهائيّة القصيدة من خلال توالدها في ذاتها وتنوّع مدلولاتها وقيمها الإشاريّة، وفي تناميها الدائم بين الدالّ والـمدلول، لتنتقل من كونها لغة العلامة والإشارة إلى لغة الصيرورة الـمرتبطة بالنفس البشريّة… هي ليست لغة الفوضى كما يحبّ أن يسمّيها بعض التفكيكيّين، غير أنّها لغة الاختلاف والانفتاح في تشكيل خاصٍّ قائم على “التبعثر المنظّم”… لغة التفجّر من عمق لتوليد الحرارة والإشعاع من داخل.
انطلقت هذه القراءة، من زاوية معيّنة (ثنائيّة الضوء والعتمة) بغية فتح النصّ الشعريّ على فضاءات جديدة، ولم نتناول الظواهر الأخرى الـمتمثّلة باللغة الشعريّة والإيقاع والصورة، أو بالـمنحى الجماليّ، ولم نغُصْ في مسائل الـميتافيزيق ومصير الروح بعد الـموت ومسائل الوجوديّة، وما طرقنا باب التراكيب والأنساق البنيويّة… كلّ ما سعت إليه هذه الرؤية المختصرة، هو فتح باب التأويل على قراءات أخرى مختلفة، ولم تلجأ إلى مجرّد التفسير، ولم تشأْ أن تكون مرآة لأفكار النصّ الظاهرة، أو الباطنة، بل أرادت أن تكون نصًّا آخر خاصًّا، يرى إلى جدليّة النور والظّلام من جهةٍ خاصّةٍ نسبيّة، غير أنّها تدعو إلى تعدّد القراءات وتناقضها، وكلّ هذا لأنّ النصّ حمّال أوجه. وهذا يُحسَبُ للنصّ الشعريّ لا عليه، فالنصّ الناجح هو الّذي يدعو إلى التأمّل وإلى تعدّد القراءات والتحليلات… وهذا ما يؤكّده “تودوروف في كتابه الشعريّة : “إنّ الناقد يقول شيئًا آخر لا يقوله العمل الـمدروس عندما تنضاف الكتابة إلى القراءة الـمجرّدة.” (تزيفيان تودوروف، الشعريّة، ص 21)