أدب وفن

الفارسة الأخيرة تترجل /قراءة في قصيدة آخر الرمق للشاعرة د. يسرى البيطار

الدكتور جوزيف ياغي الجميل

الفارسة الأخيرة تترجل

قراءة في قصيدة آخر الرمق للشاعرة يسرى البيطار

آخِر الرّمَق

قسَا عليَّ وصَبَّ النّارَ في الحبَقِ
والنّارُ أوّلُها في أدمُعِ الحدَقِ
تسعون يومًا وخفقُ القلب مُحتدِمٌ
يا حاديَ اللّيل إنّي أمّةُ القلقِ
تعبتُ أركعُ عند الله أسألُهُ
متى يرُشُّ مياهَ النّوم في الأرَقِ
متى سيرتاح قلبي أنتَ تحضنُهُ
حتّى نهاية روحِ الزّهر في العبَقِ
أتيتُ كفَكَ طوِّبْني على وهَني
إنّي الرّياحُ وإنّي الوهنُ في الورَقِ
هو الجنونُ أنا لا قيس يعرفُهُ
ولا جميلٌ ولا مَن ماتَ في الحُرَقِ
أنا الدّماءُ التي أنطقتَها ألَمًا
إنّي أحبُّكَ حتّى آخِرِ الرّمَقِ

آخر الرمق، بل قصيدة الألق، تكتبها شاعرة الأرق الدكتورة يسرى بيطار.
وخارج حدود الشوق والشتوق نقول: يعلن الأريج ولادة زهرة، ذات ربيع، يوم تنكسر المرايا، ويحتضن الموج محار الذكريات، في موطن الأسرار.
آخر الرمق عزف على أوتار ربابة بلون الغرق. وتزهر أنغام الربابة. تولم ألحانا من الشذى والأريج. تخط على مخطوط بوحها آيات انتظار لا تشبه إلا ذاتها، في بساتين الأعمار.
والعمر زورق مسافر في لجة الأرق. تباريحه المدى المذعور، وأحلام الجنون.
بين الشاعرة والقلب ما بين شهرزاد وشهريار. هو السيد وهي الأسيرة. والأسر يكشف زيف القيود، واحتراق الحدود، بين ضحية وجلاد.
يقسو عليها القلب، ذات حياة، فترتعش النار في وجنتيها والظنون.
تسرق النار لترضي السيد الشهريار، ولا فرار.
تسعون يوما.. ورقم التسعين تسعة إلى جانبها الصفر، أو الهباء. والتسعة رقم انتصار وغنيمة. هو رقم يشير إلى الإنجازات التي تبلغ حد الكمال، كمال البوح والألم في آن.
بالله عليك، أيتها الزرقاء النبية، أخبرينا ما دلالة التسعين يوما؟
أتكون تناصا وعنوان رواية الأديبة مريم شعبان: «تسعون يوماً في الربيع» أم لها ارتباط بعنوان رواية ثانية للأديب عبد القادر بعطوش:” تسعون يوما قبل القدر”؟
وهل يمكن أن يحمل الرقم المذكور إشارة إلى الأيام التي مرت بين انفجار المرفأ في بيروت، وتاريخ كتابة هذه القصيدة؟
تسعون يوما تشكل فصلا كاملا من العمر. ذاك العمر الذي عتقته الدموع والأحزان:
“وخفق القلب محتدم”
فمتى يحتدم القلب، أو يغضب ويثور؟
ولماذا تصبح ثورة القلب نارا تحرق هشيم الدمع والواقع الحياتي المخضب بالدماء؟
تصف الشاعرة البيطار نفسها فتقول:
“إني أمة القلق”
وبذلك تصبح صنوا للمتنبي إذ يقول:
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ
وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
فالهموم التي يحملها الشاعران قضت وتقض مضاجعهما، وتحرمهما لذيذ الرقاد. وكيف لا يحصل ذلك والشاعر- مذ يولد- نبي عصره، وسيزيف التحدي الإنساني، بلا منازع.
الشاعرة البيطار يراودها أرق وجودي ناجم عن روح قلقة تعاتب الله لأنه لا يستجيب لتضرعاتها والصلوات. ولعل صلاتها الخلبية هي صلاة الجماعة، صلاة المعذبين والمتألمين على الأرض تتماهى بهم الشاعرة، آن انكسار المرايا، واحتراق طائر الفينيق.
هي حياة الإنسان بين يدي إله تعلن أنه غافل عن تسكين الأمواج، وتهدئة العواصف، في ذاتها القلقة الأرقة، وفي الذات البشرية بشكل عام، بانتظار أن يسترد الله وديعته، وينتهي عصر الزهر في العبق.
رائع تصويرك الموت، أيتها النبية الأبية! إنه انفصال العبير عن الورود، بل عودة القلب إلى حضن الإله.
عتاب الله ليس كفرا، بل محبة. والعتب،على قدر المحبة، يقول المثل. همها أن ترتاح من هموم الحياة. ومن غير الله يقدر أن يمنحها هذا الرجاء؟! لذلك تعلن أنها تضع قلبها القلق، بين يدي الله، كي يبعث فيه الراحة والسكون.
هي واهنة وهو القوة المطلقة،القادرة على وقف نزيف القلب الجريح بالمحبة، الحزين حتى الموت.
هي الرياح والورق التائه في مهب العواصف، بل قبض ريح لا تهدأ ولا تستريح.
هي جنون الحب ولكن لا علاقة لها بابن الملوح، قيس، ولا بابن معمر، جميل، أو ابن أبي ربيعة، عمر؛ لأن عشقها ليس لشخص بل للإنسان الغارق في جنون أحلام يقظته والنسيان.
جنونها جنون الحب العرفاني الصوفي الذي يتماهى وآلام البشرية المنازعة.
وتعلن الشاعرة البيطار في نهاية قصيدتها حلولية حلاجية السمات، بينها وبين إلهها الإنسان. تصبح وإياه واحدا: جرحه جرحها، ألمه ألمها، تصبح الدماء النازفة من جرحه الكبير. وتعلن أخيرا فعل حب كبير لهذا الإنسان الإله، حتى الثمالة والموت:
إني أحبك حتى آخر الرمق
وآخر الرمق هو الموت على صليب الجلجلة والفداء.
تجمع الشاعرة يسرى البيطار في ذاتها القلقة بين ثلاث شخصيات: بروميثيوس رمز الشاعر الذي سرق النار وأهداها للإنسان. وكان عقابه العذاب الأبدي.
وسيزيف الذي تحدى الآلهة فعاقبته بحمل الصخرة، رمز الشقاء الإنساني الأبدي.
والسيد المسيح الذي حمل صليبه، من أجل خلاص البشر.
وقد تماهت الشاعرة بهذه الشخصيات الثلاث؛ لأن صراخ البشرية حرمها الرقاد، أصابها بالأرق، وحان لها، كشاعرة، بل آخر فارسات الشعر، أن تترجل، وتدفع ثمن دورها الخلاصي، تضحية وفداء، حتى آخر الرمق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى