شخصيَّة “المركز الثقافي الإسلامي” في “اليوم العالمي للمرأة”العميدة الدكتورة “زاهية قدُّورة”
شخصيَّة “المركز الثقافي الإسلامي” في “اليوم العالمي للمرأة”:
العميدة الدكتورة “زاهية قدُّورة” المؤرّخة صاحبة الفكر السياسي اللبناني/العروبي
بقلم العميد الدكتور ساسين عسَّاف
يقول المؤرّخ التركي إينالجيق: “التاريخ لا يتكرّر لكن ثقافة الأمّة بخطوطها الأساسية تستمرّ.”
زاهية قدّورة، مؤرّخة الأمّة العربية، تؤرّخ إستمراريّة ثقافتها منذ فجر الاسلام حتى تسعينيات القرن الماضي باعتمادها منهجاً خاصاً في مقاربة الحدث وسرده وتحليله وضبط مسبباته وتوقّع تداعياته وربطه بما يتجاوز لحظة وقوعه فتبدو معها كتابة التاريخ بمعنى الزمن الماضي كتابة للراهن والآتي.
لذلك إرتأيت أن أقرأ الفصل الخامس من هذا الكتاب ربطاً بالراهن العربي، وهو بعنوان: الفكر السياسي عند زاهية قدورة.
علم التاريخ شيء ومعرفة التاريخ شيء آخر. علم التاريخ يتّصف بالشمولية أو الكلّية وبالتبادلية بينه وسائر العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية والدينية والاقتصادية، إنّه أقرب إلى علم الحضارة. أمّا معرفة التاريخ فتتّصف بالمخصوصية أو الجزئية وهي أقرب إلى علم الحدث أو علم الواقعات أو الوقائع.
الفكر السياسي هو ناتج علم التاريخ ومنه يستمدّ صحّته ومشروعية استمراره إطاراً مرجعياً لمسالك شعب أو توجّهات أمّة. بين علم التاريخ وعلم السياسة رباط عضوي وتكويني.
زاهية قدورة عالمة تاريخ أنتجت فكراً سياسياً يختزن ثقافة الأمة العربية بخطوطها الأساسية ما أكسبه مشروعية الإستمرار إطاراً مرجعياً لفهم الراهن العربي وتحوّلاته.
1 – منهجها في مقاربة الوقائع
شكّلت الوقائع التاريخية لديها مادّة تأمّل واستبصار واستنطاق واستنباط وتكوين معرفي حضاري لتحديد المسار العام بما يتخطّى العناية بالواقعة لذاتها فالواقعة في التاريخ لا أهمّية لها ما لم تربط بمسار كما المفردة في اللغة لا أهمية لها ما لم تربط بسياق.
هذا المنهج “التوقيعي” أو “التشبيكي” عزّز مكنتها من ربط الوقائع في تاريخ العرب ربطاً موضوعياً وانسيابياً يستحيل معه فهم واقعة بإفرادها عن سابقاتها واللاحقات (حديث الإفك في المفهوم السياسي والمفهوم السياسي لموقعة الجمل، الدوافع والحيثيات نفسها، ردّ إلهي على حدث تاريخي)
منهج الربط بين الوقائع أفضى إلى إيمانها بوحدة التاريخ وحدة متماسكة. ووحدة التاريخ هذه كوّنت لديها مجموعة إعتقادات مركزيّة وحتمية شكّلت قواعد فكرها السياسي. أجادت إستثمار علمها بالتاريخ السياسي لتكوين طروحاتها السياسية.
2 – قواعد فكرها السياسي:
قبل الدخول في قواعد فكرها السياسي وتفريعاته يطرح السؤال الآتي مقروناً بإجابة واضحة ومختصرة: من هي زاهية قدورة؟ إنّها لبنانية وعربية مسلمة في هوية سياسية عضوية واحدة لا انفصام فيها ولا تناقض أو عداء.
زاهية اللبنانية العربية المسلمة أرست قاعدة فكرية ما زالت صالحة حتى اليوم لمعالجة الإشكالات الناتجة عن محاولات جعل اللبنانية في مواجهة العروبة وجعل العروبة في مواجهة الاسلام وهي محاولات رافقت نشوء الكيان اللبناني من جهة ورافقت نشوء الفكر القومي العربي من جهة أخرى.
أ – لبنانية زاهية قدّورة
- إنّها لبنانية الجمع بين مسلمين ومسيحيين حيث لا أقلّية ولا أكثريّة ولهم طريقة عيش مشترك في ظلّ القانون والعدل والمساواة وفي كنف دولة عربية واحدة ذات سيادة تامة. (الراهن اللبناني يظهر أنّ اللبنانية هي لبنانية قسمة وفرز بين الطوائف والمذاهب ولبنانية دولة تتحلّل وقانون مغيّب وعدل استنسابي وتظلّم مباح…)
- إنّها لبنانية الإنسجام الحضاري بين اللبنانيين، لبنانية وحدتهم الفكرية والثقافية، ووحدة الشعور ووحدة الآمال بما لا يؤدّي إلى تمام التماثل في كلّ شيء. (الراهن اللبناني يظهر أنّ اللبنانيين باتوا يعيشون في بؤر حضارية ومآو ثقافية ومجمّعات فكرية مغلقة وفي مربّعات شعورية مدشّمة بأشكال العصبيات كافة وفي بدد من الآمال المتضاربة..)
- إنّها لبنانية المحافظة على الكيان اللبناني العربي هوية وانتماء وحضوراً رائداً في الثقافة العربية. (الراهن اللبناني، وبالرغم من أنّ الدستور بنسخته الأخيرة والمعدّلة في العام 1991 قد حسم هوية لبنان وانتماءه العربيين، يظهر أن اللبنانية تضاءل حضورها في المحافل العربية عموماً وفي الثقافة العربية خصوصاً اذ بات الهمّ الثقافي الديني والطائفي والمذهبي والقطري في أحسن الأحوال محور القضايا التي تشدّ إليها عصبيات “المثقّفين” الفئوية ومصالحهم الذاتية..)
- إنّها اللبنانية العروبية الوحدوية التي تحمل لواء الوحدة العربية على خطى العروبيين الوحدويين الأوائل الذين كانوا في معظمهم من النصارى. (لبنانية الراهن اللبناني كيف لها أن تحمل لواء الوحدة العربية وقد بدا عجزها عن حمل لواء الوحدة الوطنية! وأنّى للمسيحيين تالياً أن يتقدّموا صفوف الدعوة إلى الوحدة العربية وهم أعجز من أن يقيموا بينهم وحدة موقف وطني واحد.. تشكّلات ما دون الوحدة الوطنية تتصدّر المشهد السياسي اللبناني أمّا التشكّلات الوطنية والقومية فمشرذمة يجمعها الحلم وتفرّقها المنازع والأهواء. لا وحدة عربية بدون وحدات وطنية.)
- إنّها لبنانية الإيمان بإنسانية الإنسان، المسيحي الكامل والمسلم الكامل. إجتماعهما معاً هو قمة الإجتماع الإنساني. تلك هي حقيقة لبنان الروحية. (الراهن اللبناني يظهر أنّ المسيحيين فيه شيء والمسيحية شيء آخر وأنّ المسلمين فيه شيء والإسلام شيء مختلف ما ضيّع على لبنان حقيقته الروحية وأخرج اللبناني من إنسانيّته واللبنانيين من إجتماعهم الإنساني وألهب فيهم شهوة تدمير الآخر وسحقه وإلغائه..)
لقد تمّ إنشاء قواعد الفكر السياسي لدى الدكتورة زاهية قدّورة بالإستناد إلى النصوص التي يقدّمها لنا هذا الكتاب وإلى شروحات صاحبه الدكتور محمّد سعد الدين العريس واجتهاداته وله في ذلك فضل عميم مع الإشارة إلى ضرورة إحتساب الخطأ في التقدير العائد إلى اقتطاع النصوص من سياقاتها العامة وأخذاً بالإعتبار الفارق الزمني بين بدايات زاهية قدّورة ونهاياتها في الانتاج الفكري. بين البدايات والنهايات تخضع المفاهيم والرؤى لقانون التطوّر والتبدّل الحتمي. هنا الظروف والوقائع والمواقع والاختبارات والتجارب تفعل فعلها في بلورة المفاهيم وصوغ الرؤى فيبدو للباحث عنها وفيها أنّها على غير سويّة فكرية أو انتظام رؤيوي عام.
منذ بدايات القرن الماضي حتى اليوم والعناوين المطروحة على الفكر السياسي العربي هي نفسها ما يدلّ إلى مأزقية هذا الفكر في تعامله الدائري مع تلك العناوين. فالمقاربات والمقولات والخلاصات والمعادلات تكرّر نفسها وهي تنداح بين الشيء ونقيضه أو بين توفيقيات وافتعالات ذهنية يسهل تركيبها في الذهن وتستحيل ترجمتها في الواقع.
لو لم يكن الأمر كذلك لما فرضت تلك العناوين نفسها على امتداد قرن أو يزيد.
كثيرة هي العناوين التي حسمت نظرياً. فارتاح لها المنظّرون. ولكن تأتي الأحداث لتهدم الأبنية النظرية وبديل أن يعمد هؤلاء إلى تغيير قواعد التفكير نراهم يعودون إلى القواعد نفسها ليقيموا فوقها أبنية أخرى سرعان ما تهدمها أحداث أخر. هذا هو دأب الإيديولوجيين في تعاطيهم الدائري مع التاريخ.
المفكّر السياسي المتشبّع من علم التاريخ يقيم بناءه النظري جرّاء تفكيك الحدث وإعادة تركيبه ولا يسقط عليه صياغات فكرية جاهزة. وهذا هو الفارق بين المؤرّخ السياسي والايديولوجي.
زاهية قدّورة في ما كتبت أو أرّخت ظلّت إلى علم التاريخ أقرب منها إلى الايديولوجيا على الرغم من أنّها قومية عربية في الهوية والانتماء. دخلت إلى السياسة من باب التاريخ ولم تدخل إلى التاريخ من باب السياسة. في هذا السياق نشير إلى وجوب تصنيف كتاباتها ما بين ما هو علمي وما هو دعوي، بين ما هو تاريخ سياسي وما هو سياسي. إمتيازها هو أنّها أجادت إستثمار علمها بالتاريخ السياسي لتكوين دعواها السياسية وتدعيمها في مواجهة ما يناقضها من دعوات. هنا التاريخ يتحوّل إلى حجّة إثبات لسلامة التوجّهات وصحّتها.
من يتّخذ التاريخ حجّة إثبات يبرأ من أيّ عناد ايديولوجي.
بهذا المعنى تكون زاهية قدّورة قد أدخلت التاريخ في السياسة فأعلت شأنها ونزّهتها بما يليق بعالم أو مثقّف ولم تدخل السياسة في التاريخ لتزيّف حقائقه وتسقط جوهر ما فيه أي حجّة الإثبات خدمة لنزق ايديولوجي معاند. أوليس من حقّ الأجيال العربية خصوصاً الجيل اللبناني على المؤرّخين وأساتذة التاريخ في المدارس والجامعات أن يكتب لهم تاريخ الأمّة والأقطار بعيداً من أيّ نزق أو عناد أيديولوجي؟!