بَيْنَ صُورَتَيْنِ ..فِي “يَوْمِ الأُم”

الدكتور وجيه فانوس
بَيْنَ صُورَتَيْنِ ..فِي “يَوْمِ الأُم”
بَيْنَ أَوَّلِ صُورَةٍ لِي، مَع أُمِّي، وآخرِ صُورَةٍ لِي مَعَها، زُهاءَ رُبْعَ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَنِ ، عَرَّفَتْني فيهِ كَيْفَ يَكُونُ عِزُّ كرامَةِ العَيْشِ وزَهْوُها؛ في الصَّبرِ على وَجع فجائعِ أَحْداثِ عُمْرٍ وَحْشِيِّ القَساوَةِ، مُرْعِبِ الغَدْرِ، صاخِبِ الأَذَى، ضاجٍّ بالآلامِ.
أَصَرَّتْ والدتي أَنْ نَجْتازَ، مَعَاً، كُلَّ مَا فِي غِمارِ فَجائِعِ هذا العُمْرِ ، مِنْ شَظَفِ عَيْشٍ وَأَهْوالٍ أَحْداثٍ وَبُؤْسِ أَحْوالٍ.
مَشَيْنا، يَداً بِيَدٍ، بِهامَتَيْنِ مَرْفُوعَتَيْنِ؛ يُضِيءُ لَهُما دُرُوبَ سَيْرِهِما، ألَقُ إِيمانٍ ساطِعٍ باللهِ، وعَزْمٌ شَعْشَعانِيٌّ لِلْوُصُولِ بالذَّاتِ إلى أسمى مَا فِي الإنْسانِ مِن رِفْعَةٍ وَتَرَفُّعٍ ؛ كَما كانَت تَغْمُرْهُما فَرْحَةٌ دائِمَةٌ مِعْطاًءٌ بالتَّعاوُنِ الخَيِّرِ مَع مُجْتَمَعِهِِما وَسائِرِ خَلْقِ اللهِ؛ على تَعَدُّدِ مَا فِي ذلكَ المُجْتَمِعِ وتَنَوُّعِ مُعْتَقداتِ خَلْقِ اللهِ الإيمانِيَّةِ واخْتِلافِ مذاهِبِهِم الفِكْرِيَّةِ وتَرامِي تَوَزُّعاتِهِم الجُغْرافِيَّة.
ما آلَمَنِي أَبَداً، يا “ماما”، كُلُّ هَذا الذي عَانَيْناهُ، مَعاً، مِنْ وَجعٍ؛ ولا مَا قَاسَيْناهُ، سَوِيَّةً، مِنْ مَصاعِبِ العُمْرِ ، بَعْدَ الوَفاةِ الصَّاعِقَةِ لِوالِدي، وَهُوَ فِي رَيْعانِ شَبَابِهِ؛ بِقَدْرِ مَا أَفْرَحَني أَنَّكِ لَمْ تَتْرُكِيني وَحِيداً وَلَوْ لِلَحْظَةٍ واحِدةٍ؛ وتَشَرُّفِي بِأنِّي نَشَأْتُ وتعلََّمْتُ، كَيْفَ يَكُونُ السَّبِبلُ إِلى النَّجاحِ، عَلَى هَدْي حَنانِكِ المُطْلَقِ، ومَسِيرَةِ حَزْمِكِ الذي لم يَعْرِفْ أَيَّ تَهاوُنٍ، ومَهابَةِ صَبْرِكِ الأَبَدِيِّ، الَّذي حَفَرْتِ بِهِ دُروبَ عُمْرِكِ.
مَا آلَمَنِي، وَقْتَئِذٍ، وَشَدَّ وِثاقَهُ عَلى كُلِّ ما بِتُّ أَعِيشُهُ حتَّى اليَوْم، أنِّي عِنْدَما رَكَعْتُ عِنْدَ قدَمَيكِ الطَّاهِرَتينِ ، أَلْهَجُ بِآياتِ الشُّكرِ والعِرْفانِ، لأُخْبِرُكِ أنِّنا سَنَبْدأُ رِحْلَةَ مُغادِرَةِ الوَجَعِ ومُفارِقَةَ البُؤسِ، إذْ حَصَّلتُ أوَّلَ مُرَتَّبِ مَالَيٍّ لي إِثْرَ تَخَرُّجِي مِنَ الجَامِعَةِ؛ كُنْتِ يا “ماما”، في لَحَظَاتِ بَذْلِكِ الرَّمَقَ الأَخِيرَ مِنْ مِشْوارِ عُمْرِكِ المِعْطَاءِ، وَلَمْ يَتَسَنَّ لَكِ سَمَاع ما كُنْتُ أُخْبِرُهُ لَكِ.
كُنْتِ، يا “أُم وَجِيه”، تَعِيشِينَ لَحْظتَئِذٍ، مَقولَتَكِ الرَّاسِخَة أَبَداً فِي كَيانِي، “لا شُكْرَ على الحُبِّ، يا ماما”.
أُحِبُّكِ، أُحِبُّكِ،؛ كُنْتُ، وَسَأَبقى.