أدب وفن

بيروت وأعمال مؤرِّخيها (2) بين الأهميَّة الأساس والتَّشتُّت

الدكتور وجيه فانوس

لعلَّ من أشهر مَن احتلَّ موقع الرِّيادة، بين النَّاس، في الكتابة عن بيروت، هو «صالح بن يحي»، المتوفَّى سنة 1446م. وذلك في كتابه الموسوم «تاريخ بيروت»؛ وهو عينه، الكتاب الذي عمل على إتمامه «حمزة بن أحمد بن ساباط»، المتوفَّى سنة 1520م.؛ عِلماً أنَّ هذا العمل، لابن يحيى وابن ساباط، لا يتناول التَّاريخ المباشِر لبيروت، بقدر ما يهتم لتاريخ بني تَنوخ، الذين استقرُّوا، منذ سنة 1262م. في حكم ما يُعرف بمنطقة «الغرب» في لبنان، الواقعة عند التُّخوم الشرقيَّة الشماليَّةِ لبيروت؛ والتي يعرف من قراها، حالياً، «شِملان» و«عَيْناب» و«سَرحَمول»؛ ومن هذا الذي جمعه ابن يحيى وابن ساباط، في ما يقارب 127 صفحة، تستغرق المادة المباشرة عن تاريخ بيروت في 19 صفحة فقط.

من جهة أخرى، فإن «محمَّد خليل المُرادي» يذكر، في كتابه «سِلك الدُّرر في أعيان القرن الثَّاني عشر»، مؤلَّفاً، يحمل أيضاً، عنوان «تاريخ بيروت»؛ مُشيراً إلى أنَّ هذا العمل من وضع «أحمد البيروتي»؛ غير أنَّ كلَّ ما يتعلَّق بهذا العملِ وواضِعِهِ، ما برح مجهولاً حتَّى اليوم. ولذا، فإنَّ أمر البحث التَّأريخي لبيروت، يظلَّ محصوراً بشكل أساس في ما وضعه «صالح بن يحيى»، في القرن الخامس عشر الميلادي، وتابعه فيه «حمزة بن ساباط»، في القرن السادس عشر الميلادي، إلى أن وضع الأب «لويس شيخو» اليسوعي، المتوفَّى سنة 1927م.، بتوصية سنة 1915، من والي بيروت «عزمي بك»، مُصَنَّفَهُ الذي حمل، كذلك، اسم «تاريخ بيروت»؛ وكانت النِّيَّة، بناء على توصية الوالي «عزمي بك»، أن يسعى الأب «شيخو»، إلى متابعة ما توقَّف عنده كتاب «صالح بن يحيى»، إنطلاقاً من المراحل الأخيرة من عهد دولة المماليك، وصولاً إلى مرحلة اندلاع أحداث الحرب العالميَّة الأولى، سنة 1924. ولقد نُشِرَ هذا العمل للأب «شيخو»، بدايةً، على دفعتين، في المجلَّدين 23 و24 من مجلة «المَشْرِق»، لسنتي 1925 و1926؛ إلى أن طُبِعَ في كتاب مستقلٍّ سنة 1926. وتجدر الإشارة، ههنا، إلى أن ما يورده «شيخو»، من تأريخه لبيروت، بشكل عام، يظلُّ قائماً ضمن كثير من الإيجاز والإلماح، من دون أن يقتحم واضعه كثيراً من مفازات التحقيق، ويعمل على نزع النقاب عن ما يعتبر من معميَّات الأحداث. ولذا، فإن ما قام به «شيخو»، من تأسيس لا يمكن نكرانه في العمل التَّأريخي والتَّاريخي لبيروت، فإنَّه لا يمكن أن ينتهي إلى مصاف البحث التَّأريخي المعمَّق ولا يرقى، في كثير من مطارحه، إلى مصاف التحليل والاستنتاج الموضوعين أو الخاليين من كثير من شوائب ما يلمُّ بالأمور من غموض أو مُغلقات.

ظهر في سنة 1917 كتاب باللُّغة التُّركيَّة، وضعه «عبد الغني سنِّي بك»، عنوانه «حادثة بيروت»؛ كما ظهر، كذلك، كتاب «ولاية بيروت»، من وضع «محمَّد بهجت» و«وفيق التَّميمي». ولئن كان كتاب «سنِّي بك»، يعرض للقصف الذي طال المدينة سنة 1912، وكان «بهجت» و«التَّميمي» قد سعيا إلى نشر معلومات، تمكنّا منها، عن ما كانت تتألَّف منه بيروت من مناطق؛ فإنَّ كلَّ هذا ظلَّ ضمن العمل على تغطية تأريخيَّة لزمنٍ بحدِّ ذاته، أو لحادثةٍ بعينها، أو لمحيطٍ مكانيٍّ أو زمانيٍّ مقصورٍ على ما فيه؛ ولم يصل الأمر ليكون من باب الدَّرس الشُّمولي للتَّاريخِ والعمل التَّواصلي المعمَّق مع شؤونه وقضاياه، ولا من باب البحث المنهجي الموثَّق، إذ السَّعي إلى وضع تأريخ يشمل وجود المدينة ويكون، في الوقت عينه، مرجعاً تأسيسيَّاً موثوقاً ومعتبراً للتَّعامل مع أمور تاريخها وموضوعات هذا التَّاريخ على مرِّ الأجيال.
كان لعشرينات القرن العشرين، من جهة أخرى، أن تشهد ظهور بعض الأعمال غير العربية عن بيروت؛ ولعلَّ من أبرز هذه الأعمال ما وضعه، سنة 1921، الأب «هنري لامنس»، Henri Lammens، المتوفَّى سنة 1937، بعنوان «La vie universitaire a Beyrouth sous les Romains et le bas empire»؛ وكذلك، ما وضعه، سنة 1925، «بول كولينيه» Paul Collinet، المتوفَّى سنة 1938، في كتابه «Histoire de lÉcole de droit de Beyrouth – ، «L’école de droit de Beryte au VIe siècle»؛ وكذلك ما وضعه، سنة 1952، كلٌّ من «رينيه موتيرد» Rene Mouterde و«ج. لوفاري» J. Lauffray، في كتابهما المشترك، «Beyrouth, ville romaine: histoire et monuments». ويُظهر التوجُّه التَّأريخي العام، لهذه المؤلَّفات، أنَّ الاهتمام الأساس فيها قد أنصبَّ على تبيان للروابط الرُّومانية، عامَّةً، والبيزنطيَّة، خاصَّة، التي شدَّت بيروت إلى هاتين السلطتين أو الحضارتين، وتحديداً من خلال بعض بقايا الشَّواهد الأثريَّة العمرانِيَّة القائمة في المدينة. 

شهدت أربعينات القرن العشرين، وربَّما بتأثير من نَيْلِ لبنان الاستقلال الوطني، انطلاقاً لعديد من محاولات تأريخ أمور من بيروت، وخاصَّة تلك المعاصرة لذلك الزَّمن؛ ومن هذا القبيل كتاب «مَوْطِني بيروت»، لـ«أنيس النُّصولي»، وهو بحث لا يتجاوز 38 صفحة؛ كما ظهر في سنة 1963، كتاب تجميعي لـ«إبراهيم نعُّوم»، أسماه «بيروت في التَّاريخ»، وهو في الواقع جَمْعٌ لعملين، أحدهما لـ«داود كنعان»، والآخر لـ«حسين طبَّاره»؛ والأصل في هذين العملين أنَّ كلاًّ منهما مقال مُطَوَّل، وقد أضاف «نعوم»، إلى هذين دراسةً له من 172 في موضوع «بيروت بين 1870 و1962». وكان، ضمن هذا الاحتفال بنشر أعمال تتطرَّق إلى بيروت، أن ظهر في سنة 1964، كتاب من وضع «يوسف الحكيم»، وسمه مؤلِّفه بـ«بيروت ولبنان في العهد العثماني»؛ تلاه ثلاثة أعمال، أحدها حمل عنوان «الجوامع والمساجد الشَّريفة في بيروت»، لـ«عبد الرَّحمن الحوت»، سنة 1966؛ وكتاب «مساجد بيروت»، وقد وضعه «صالح لمعي مصطفى»، سنة 1968؛ وكتاب «تاريخ المساجد والجوامع الشَّريفة في بيروت»، الذي وضعه الشَّيخ «طه الوَلي»، سنة 1973. وهذه جميعها، كانت، وكما هو بيِّن من توجهاتها وطبيعةِ تعاملها مع موضوعاتها، من الأعمال الموجزة، أساساً، أو من الدِّراسات ذات الاهتمام المحصور باهتمام معيَّن لا تتعدّاها على الإطلاق.
(وإلى اللقاء مع الحلقة الثالثة: تكاثر الجهد البحثي وتزايد التَّشتُّت المعرفي)


————-
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى