أدب وفن

العمر الشعري / بقلم جميل داري

العمر الشعري
أتذكر رامبو الذي كتب قصائده المجنونة قبل بلوغ العشرين ثمّ ترك الشعر، ولا ندري لذلك سبباً ، ترك الساحة الشعرية وهو في أوج شبابه وشعره.
هل رأى أنّ عمره الشعريّ انتهى؟
يبدو لي أنّ الشاعر عامّة لا يعترف بنهابة عمره الشعريّ، فيكتب ما هبّ ودبّ معتمداً على تاريخه الشعريّ الحافل مثل التاجر المفلس الذي يعود إلى دفاتره القديمة.
مرة كتب محمود درويش أنّه لم يقرأ للبياتي منذ عشرين عاماً .
وهذا اعتراف من شاعر كبير بنهاية البياتي شعريًّا.
من خلال متابعتي لبعض الشعراء رأيتهم لا يغادرون الساحة، وقد خسروا كلّ أسلحتهم، وفقدوا مبرّر وجودهم الكوميدي مثل نزار قباني، فلم يقل شعراً قبل وفاته بعشرين عاماً . كل ّما قاله كان اجتراراً لماض جميل بل كان دون ذلك بكثير.
وهذا يصحّ على سعدي يوسف الذي تراجع شعريًّا وأخلاقيًّا أيضاً.
ولا داعي لذكر أسماء أخرى بين ظهرانينا كي لا أفتح عليّ وعليكم أوكار الدبابير.
إنّ الذي يعلن نهاية العمر الشعريّ للشاعر هو الشاعر نفسه اعترف أم لم يعترف، ثمّ يأتي النقاد والقراء بالدليل القاطع على هذه النهاية.
على الشاعر العاقل أن يكفّ عن الشعر، وأن يقارن بين ماضيه الناريّ وحاضره الرماديّ كي يظلّ في عين الناس ذلك النجم الجميل الذي كان ينير سماء الإبداع بالحبّ والجمال.
والعمر الشعري لا علاقة له بالعمر الزمنيّ ،فقد يبلغ الشاعر الثمانين وهو في أوج شعره. ألم يقل زهير:
سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يعشْ ثمانينَ حولًا لا أبا لكَ يسأمِ
وقد يكون في عزّ شبابه الزمنيّ وينتهي شعريًّا.
في عالم الخيول يقال: إن الحصان المريض أو العجوز يُقتل، أو هو يقتل نفسه بعد أن يفقد قوته ومجده، وهذا ما وجدناه في رواية جنكيز ايتماتوف (وداعاً يا غولساري)، وغولساري هو الحصان بطل الرواية الذي يصبح عبئًا فيُقتل.
بغضّ النظر عن الموقف من قضية الخيول أرى أن يقتل الشاعر نفسه بعد آخر قصيدة ناجحة كتبها . أيْ يسكت كما قال محمود درويش:
قتلَ الشاعرُ نفسَهْ
لا لشيءٍ
بل لكي يقتلَ نفسَهْ

هذا موضوع خطير وكبير ويحتاج منّا إلى دراسات، وتحديد أهمّ النماذج الشعرية التي ترهّلت، ولم يعد لها حمّص في المولد ، وهي نفسها لا تدرك هذه الحقيقة، فتراها بحكم سمعتها القديمة تنشر الغثّ الرثّ هنا وهناك دون رادع من شعر.
هذه الظاهرة لم تخضع كما يجب للمبضع النقديّ الموضوعيّ، فترى في عالم الصحافة مثلاً صحفيًّا شاعراً يمدح أسماء شعرية باهرة مع أسماء خاملة أكل الدهر عليها وشرب .
الشاعر المتقاعد الرافض للقعود ربما له أسبابه الكثيرة في البقاء، وهو يدري أو لا يدري أنّه صار نسخة كرتونيّة عن نفسه إلى حدّ الاجترار والملل.
نحن عندما نعمّم لا نقدّم شيئاً، حيث يتساوى الصالح والطالح، ويختلط الحابل بالنابل ويصبح “كلّه عند العرب صابون”.
هناك قضايا أخرى تنبثق من هذه القضية، منها قضية الشاعر اللاشاعر منذ ولادته، لكنّه يظلّ فارس الساحة يصول، ويجول بسيفه الخشبيّ على طريقة دون كيشوت مصدّقاً نفسه ومَن يمدحه، ويحمده من نقّاد مجاملة أو طمعاً أو خوفاً.
كذلك ترى شخصاً يتباهى بأنّه طبع عشرات الدواوين، فمقياس الشعر عند هذه الفئة هو عدد الدواوين التي ربما ليس فيها سطر شعريّ واحد.
الساحة الثقافية عامّة والشعرية خاصة ملأى بالهالوك الذي يتغذّى على دمنا ،دمنا الذي يحترق من أول الوطن إلى آخر المنفى.

تمضين

تمضينَ إلى أقصى الكلماتْ
وأنا أشعلُ جرحي في الظلماتْ
تمضينَ كقافيةٍ في أطلالي
وأنا أبحثُ عنّي في المرآةْ
كم كانَ سمينًا ظلّي
أصبحَ أنحفَ من خيطٍ في ذاكرةِ الأوقاتْ
تمضينَ إلى حيثُ غيابي
وأنا أجمع ظلّي
وأسيرُ بلا خطواتْ

لماذا؟
ليَ نورٌ وليْ كذلكَ ظلُّ فلماذا كغيمةٍ أضمحلُّ
ولماذا أجرُّ خلفي غيابي وأمامي كلُّ الوجوهِ تطلُّ
ليَ صمتٌ في قعرِهِ ذكرياتي وزماني دونَ الحنينِ مملُّ
كلُّ هذا الفضاءِ أضيقُ منّي اتّساعي يفيضُ عنهُ.. يجلُّ
أكثيرٌّ عليَّ أن أتمنّى هل أنا من هذا القليلِ أقلُّ
كلُّ كأسٍ من دونِ قطرةِ ماءٍ فبماذا حلمي المواتَ أبلُّ
لي سمائي التي أصيبَتْ بذلٍّ ليسَ من بعدِها سماءٌ أذلُّ

جميل داري

كاتب ،شاعر و ناقد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى