أدب وفن

من أنا ؟

ميراي شحاده

كيف أخبرك يا قارئي العزيز من أنا، وأنا ما زالت أبحثُ عنّي في غَفْلة الأسْحارِ والشَّممِ الموءود في طَيِّ فؤادي: إني لَمَسْكونة بسحبِ السماوات أرتضِعُ من مَسارب الضوءِ ولا أرتوي! وبي صمت القبور يطول ويتلكّأ في الصراخ وأنا أحاول عن سقم هذي الدنيا أن أرتقي…تارة يصدمني الغيث الجَهام وتارة أمطرُ من ودائع ألغازي…وتشخب أوداجي دماً على نصاعة الورق الأبيض وأكتب وأكتب ثمّ أمزّق كتاباتي، علّني بها أطهّر ذاتي من ذاتي!

ولا أُشفَى، يا قارئي، أنا الظامئ الغليل إلى ما لست أعلم…أموت ولا أنْثني عن ولوج غياهب المجهول أفتّش فيها عن أقباسٍ من الأنس وعن صدى مقفّى لأحبّة أضعتهم قبل ولادتي على هذه الأرض…أرتشف والجنّ نبيذ الليالي في كؤوس مبحوحة لا يُسمَع لها رنين ولا خفقان وأعاود  الجلوس في شرفات الفجر أُقامِر السَّحَر باكراً في معموديّة الضوء وأرْنو لشمسٍ عذراء ويومٍ آخر وموتٍ آخر وقيامةٍ جديدة…

من أنا؟ إليكم هويّتي الترابيّة وبعض من زيت كورتي الخضراء في أوّل جرعة من ثدي كوسباي في اليوم السابع من نيسان، وُلدَت ميراي…ضجّ بيت شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده وقرينته إميلي العيناتي بالمهنّئين لولادة قصيدته البكر فتوافدَ الأحبّةُ والأصدقاء من كل حدب لمشاركة هذا الحدث لأنّ شاعرنا كان على مشارف الستّين من عمره عندما دَخلَ قفصَه الذهبيّ !!!   فكانت قصيدتُه الرائعة “في ملتقى ميراي” أشاركُكم بعض أبياتها، أعودُ إليها في محراب اشتياقي إليه وأصلّي مع قوافيه، حتّى أشفى من يُتمٍ كلَّلَ طفولتي وأهرم لُعبي والدمى في فتوّتي:

“نيسانُ حَيّاكِ         والرَّوضُ ناجاكِ

يا طيبَ رَيّاكِ         صغيرتي ميراي…

يا بنتَ أحلامي       يا زَهْوَ أيّامي

نَسيتُ آلامي          لَمّا أتَتْ ميراي

تَبَسَّمَ الخُلود           وصَفَّقَ الوجود

وَجُنَّتِ الورود        في ملتقى ميراي”

بأريج أبيات هذه القصيدة، استهلّيتُ كتابي الشعريّ الأوّل” يوم قرّرت أن أطير-2017″ وافتتحتُ معه عمرا” ممزوجاً بفضاء آخر استولدتُ منه أبي الراقد بين السّطور وأصدرتُ له آثارَه الكاملة الأدبيّة والشّعريّة في صيف 2020.

كَبُرَت، ميراي الطفلة، في كوسبا على عطر ذكرى والد عبقري قد ملأ الدنيا وشغلها بين 1930 و1975؛ أترُكُ لكم قرّائي شغفَ التعرّف إليه من خلال ولوج كتاباته؛ وفي حلبة الحياة، كانت أمّها الأرملة الشّابة تصارع قدرها لتعبّد أروقة أربعة أطفال يتامى بشذرات العلم والمعرفة والأخلاق؛ ألا وهي القائلة لي ولإخوتي دوماً: أنتم أولاد عبدالله شحاده، سيروا على الصراط المستقيم وكونوا خير خلف لخير سلف. كانت تُسحرني هذه الشّابة أمّي، كيف أحبّت والدي وكيف اقترنت به وكيف أصرَّت وحمَلَت الأمانة بحبّ كلّي سرمديّ كحبّ المسيح لحمل صليبه على طريق الجلجلة! كانت تزرع في رأسي كلماته ووصاياه وتبذر قمح أحلامه في تربتي! فأنا ما أنا عليه بفضلها وسعة فكرها وعمق إيمانها…أمّي كانت أبي وأمّي!

قارئي العزيز…وقد تعرّفتَ قليلا على الكثير منّي، أعترفُ لك في هذه السطور عن شغفي في الكتابة والشعر والفنون! منذ نعومةِ أظافري وأنا أوشوشُ أوراقي البيضاء بعضاً من أسراري وألاعبُ قدري بأبجديات الحروف…في مدرستي،دار النور للآباء العزاريين، تميزت بالجدّ والدأب راميةً أحداقي إلى العلى فكنتُ أعشق الّلغات كما العلوم في ثالوثها المقدّس الفيزياء والكيمياء والرياضيات.. ومن طرائف الماضي أنّ أستاذة اللغة العربية وهي قدوتي الأولى في الأدب واللغة، د.مهى خير بك كانت وزوجها أستاذي في الرياضيات السفير آصف ناصر في جدل مستمرّ حيالي! فهو كان يوجّهني إلى التخصّص العلمي وهي تريدني أن أرتمي في كنف ما أحبّ: لغتي! درستُ الهندسةَ الميكانيكيّة وتخصّصتُ في تركيب المنشآت النفطيّة وتكرير النفط والمياه موَّسِعةً في اختصاصي دوائرَ معرفتي وصَبوتُ في حياتي المهنيّة لحكمةِ سقراط حالمةً بجمهوريّة أفلطون وعالم أرسطو! وفي خضمّ هذه الحياة، أنعمت الدنيا عليّ بكنف عائلة فأصبحت الزوجة والأمّ والرّاعي، أُهدي لقصائدي الأربع شادي، تينا، جنى ورامي كلَّ جِناني وأقاحي عمري وورودي.

الوزنات كثرٌ يا الله ورَجائي أنّني حاولتُ جاهدةً حُسْن الزرعِ والحصاد… إلى جانب انتمائي إلى نقابة المهندسين في طرابلس وفي دبي، لم أتوانى عن إحياءِ الندوات والأمسيات الأدبيّة والشعريّة والمشاركةِ مع منتديات ولقاءات ثقافيّة عدّة في سبيل تطوير دينامكية، فكرية، ثقافيّة وإبداعيّة في الساحة اللبنانيّة ودعم التّثاقف بين الحضارات و التّنوع الفكري والثّقافي.

في  صيف 2020، أسّست “منتدى شاعر الكورة الخضراء الثّقافي” تحت مظلّة المحبة والعطاء حاملةً فكرَ والدي المتجذّر في أعماقي ولهذه الأهداف السّامية، تفاعلَ المنتدى بقوّة على الساحة الثقافيّة الّلبنانيّة علّه من نافذته الصّغيرة يساهم ولو قليلا في فتح أبواب الثَّقافة في إنسانيّة الإنسان! فكان للمنتدى عدة إصدارات ومنشورات لإبداعات شّبابية ومخضرمة في الأدب والشّعر والرواية. وكان لي ضمن هذه المنشورات ديواني الثاني بعنوان: بوهيميّة.

عزيزي القارئ… بين الهندسة والشعر والفلسفة من جهة، وبين طفولتي وأمومتي من جهة أخرى أحاول الارتقاء لعالم من الروحانيات والفضائل، أحاول التحليق بجناحيّ الكلمة. أُسامرُ الفارابي في ليلاي وألاعبُ نيتشه بنرد جنوني و تطرّف ظنوني! وأحاولُ أن أناديكَ لتشاركَني الخشوعَ في معبد الذكرياتِ ومآتم الحبّ وأعراسه! من دون مواعيد، وروزنامةٍ وأرقام، من دون جوازِ سفر أزورُك هنا وأهديك من هديرِ قافلتي جلنار أمّي وزيتون أبي وما اكتنزَت ينابيعي من ماء زمزم وما حبلت به قصائدي من غيمٍ شارد حزين!

هذه بعض أناي وفي بعضها الآخر ما زلتُ كالرحّالة في البحث عنّي.

محبّتي ومودتي

5 شباط 2022

***

*ورد المقال في العدد السابع من  مجلة “أفكار اغترابية-أدب وثقافة” (15 شباط 2022) الصادرة عن مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي-سيدني، ضمن زاوية من “أنا”.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى