أدب وفنمقابلات

الشاعر أمثل إسماعيل في حوار حول ديوانيه الجديدين مع الشاعر و الناقد لامع الحر


الشاعر أمثل إسماعيل
في حوار حول ديوانيه الجديدين
مع الشاعر و الناقد لامع الحر :

لدينا شعراء كثيرون جداً بشعر قليل جداً.

أقوم بترويض ألفاظ برية و جعلها أليفة.

أنا وكيفما كتبتُ أبقى إبن الأصول وأفخر بذلك.

القارئ الذي يفترض أن يُكمل تجربة الشاعر غير موجود.

أحياناً نعبئ الفراغ بالفراغ.. وأتحايل على المرارة والخيبة بالنكتة.

( أمثل اسماعيل شاعر مجتهد، أتحفنا بعد غياب بديوانين جديدين صادرين عن دار نلسن: “الحياة وما يُشْبهها” و”قلبٌ في أجساد عدة”، وهو بذلك يؤكد حضوره الشعري الذي يعمل على أن يكون حضوراً له استثناؤه الجميل.
شاعر يكتب و ملء عينيه اللغة: كيف يحرّفها عن مسارها، لا بل كيف يعطيها ماهية أخرى، ورؤية أخرى، تغاير السائد والمألوف، وتبتكر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
أمثل واحد من الشعراء الشباب – وإن بلغ منتصف العمر كما يعبّر – الجادين الذين يتعاملون مع الإبداع بحرفة ومهارة ومسؤولية، ولهذا تلفتك في كتاباته اللغة الناضجة، والطازجة، والتي تعرف متى تنحني امام الأصول، ومتى تتمرد عليها. حول عمليه الجديدين كان لنا معه الحوار الآتي:

أمثل اسماعيل، بعد إصدار ديوانه الثالث “يُعَمِّرُ الورد” سنة 1998، ابتعد كليا عن الساحة الابداعية، لماذا؟

صحيح، القصة وما فيها ابتدأتْ بكون ديواني ذاك ضخماًً (330 صفحة) وعالمه الشعري غير سائد، ولغته على قدر من الصعوبة، فحببْتُ إراحة نفسي لفترة غير قصيرة، وإراحة قارئي كذلك، بعد أن دفعت إليه بهذا الثقل على حين غفلة. أيضاً قلتُ “أُبعد عني حتى أراني”، و قد سبقني “أرسطو” بالقول “لا بد من الانفصال عن الأشياء واتخاذ بعد معين منها، حتى تتاح لنا الرؤية الواضحة والحكم السليم”. وأنا ناقد حازمٌ لنفسي، ِإن لم أحدس أنّ جديدي سوف يشكل إضافةً وتطوراً، فلا أتقصد الكتابة ولا أتعجل النشر. لكن ما حدث أنها مدّت معي.. فابتعدتُ لخمس عشرة سنة، بسببٍ من ظروف حياتية وعملية وعائلية ضاغطة وقاسية. علماً أني لم أكن منقطعاً كليا عن الكتابة: الشعرالذي احتواه ديواناي الجديدان، والنثر مقالات ساخرة سياسية وإجتماعية وفنية، في صحيفة النهار، سوف يضمها كتابٌ من المفروض أن يصدر نهاية العام.

تسمي أحد ديوانيك الصادرين حديثاً “الحياةُ و ما يُشْبهُها”، أليس في هذا العنوان جرأة كبيرة؟ و هل بالامكان اختزال الحياة أو ما يُشْبهها بديوان؟

يا صديقي، أنا هنا أتناول الحياة الدنيا. الحياة التي على الأرض و ليست التي في السماوات. لكنها الحياة التي يحدث أن “تحْصل” بعيداً عنا معظم الأوقات. أن تعيش لا يعني أنك تحيا. و أن تحيا هو أن تعيش بسعادة. والسعادة نسبية وعناصرها تختلف من إنسان إلى آخر، مع وجود إجماع على أنها خمسة. و يحضرني هنا قولٌ لنيتشه “لو أردتُ إحصاء الأيام السعيدة في حياتي لما تجاوزتْ أصابع اليد الواحدة”. أما أنا فأميل إلى القول أنها قد لا تتجاوز نصف هذه الأصابع. عن إمكانية اختزال الحياة أو ما يشبهها بديوان، فبالطبع كلا، بالمعنى الواسع والمطلق للحياة، لكن بلى.. بالمعنى الشخصي. بالنهاية أنا من المؤمنين بأن الشعر الحقيقي هو سيرة ذاتية، ضمن ما تسمح به طبيعة وعناصرالشعر.

لماذا اللجوء إلى “فراغ يتكأ على فراغ”؟ و هل ترى أن الحياة مجرد فراغ، وهل هناك إمكانية لملء هذا الفراغ؟

المقطع الكامل الذي أخذتُ منها عنوان هذا المحور هو: “في أقصى الظل/ نغتسل بالأوان الضائع/ كلٌّ مع الآخَر/ فراغٌ يتكأ على فراغ”. ما قصدته هو الأوقات الهباء في مقتبل العمر التي يفرضها انعدام الخبرة في الحياة وعدم معرفة أو حسم ما نريده منها، وبالتالي كيفية تحقيق ذلك المراد.. فيحدث في أحايين كثيرة أن نعبّأ الفراغ بالفراغ، أوأن يكون واحدنا فراغاً يتكأ على فراغ آخر. هي العبثية و ليست العدمية. أما أني أرى الحياة مجرد فراغ فكلاّ، لا من منظور فلسفي و لامن منظور واقعي. و رغم المرارة والخيبة اللتين أتحايل عليهما بالنكتة، حياتي مليئة و ممتلئة، و ليس من أوقات ضائعة أسمح بها لنفسي إلا لماماً. أمقت مقولة “قتل الوقت” و أرثي لأصحابها البائسين. ليس الوقت بعوضاً ليُقتل. و أغبطني على تنظيم و إدارة أوقاتي ما بين العمل الاداري/المالي، و القراءة-الكتابة، والرياضة اليومية، والأسرة التي أعشق، والصداقات سواءً الواقعية أوالافتراضية.

• تقول: “الامرأة القابلة للأكل”، “شفتاك مربّى الجمر”، “أمزمزُ زبدة الذهب لجلدكِ”، “كرَميل حلمتيك”، “بقلاوة العذاب”، “عبْستها ذاتُ الخوخ”، “ضحكتها مرهم أناناس”، “الشفافة شرايينك تضج بماء الورد”، “معسّلة و مُكرْملة”، “النهدُ بشهده”، “يتشهى سحلب ظهرها”، “تتصبب كرزاً”، “بلسانه يحرك حليب جلدها”، “لبها المطعّم بالفريز”، “عضْعضتُ مِن ردفيك قمرالدين”، “كرزةٌ طعمها فلٌّ و فلفل”، “إبطاها المالسان بونبونٌ على ياقوت”، “بوفيه صدرها بالقشطة”، “مازة الساقين” إلخ. ألهذا الحد يؤثر الطعام في ابتكار صورك الشعرية؟

إسمح لي أن أوضح حتى لا يلتبس الأمر على القارئ، فالطعام هنا كما أشرْتَ، ليس الفتوش و المحاشي و الشيش برك مثلاً..، هو طيبات ما رُزقنا من فاكهة و حلوى تخدم المعنى المبتغى وصولا الى الصورة المبتكرة كما نوّهتَ مشكوراً، و هي تأتي طبيعياً لتجذرها في هواي، و مَن منا لا يهوى الطيبات بما فيها الحبيبة المشتهاة؟ أنا لا أمانع في مزج المادي بالمجرد في قولي الشعري طالما أنه يأتي بسلاسة و دون تكلف. سمعتُ مرةً الشاعر سعيد عقل في مقابلة تلفزيونية ينتقد تشبيه الشعراء لصدر المرأة بالرمان قائلاً أن كيلو الرمان بخمسة قروش! و بفخر “سعقلي” يفضل مزهواً وصفه للصدر “قطْعتا صبح”. وهو، بغض النظر عن الثمن، قد يكون محقاً في ما قال لكثرة ما شبّه الشعراء الصدر بالرمان، و ليس لأن التشبيه ليس جميلا أن أخذنا شكل الرمانة و صلابتها و اكتنازها وعصارتها بعين الاعتبار. كذلك أن يكون الصدر قطعتا صبح تصوير جميل و راقٍ لكنه بارد و غير شهي. أنا مزجت بين الاثنين كما في قصيدتي بالمحكية “نقودْتْ حلماتِكْ بِ روس صابيعي/ مربّى المسِكْ مع زبدة المرمرْ/ و َرشّة هوا أخضرْ.” علماً أني عدتُ و كمشتُ شاعرنا سعيد عقل “بالشعر المشهود” من خلال بيتين يشبّه فيهما الصدر بالإجاص قائلاً “نهدي له.. يملأ منه يداً/ والآخرُ اصفرَّ كمعطوبِ/ و أشتهيني تحت أسنانه/ إجّاصةً قال لها ذوبي”. جميل، إنما هل الإجاص أغلى ثمناً من الرمان؟

تقول ” لشدّة عينيها/ وئيداً تغتصبانني”. الاغتصاب فعل مشين حكماً، أما هنا فالأمر مختلف. فهل ترى أن هذا الاغتصاب اغتصاب جميل؟

الاغتصاب فعل مشين لا ريب، و هنا الأمر مختلف.. بلى، خاصة أن الاغتصاب يتم وئيداً و في هذا مفارقة. لكن ما العمل يا صديقي؟ إن حدث و التقيت ” بكاعب” (…) و شائتْ أن تغتصبك بعينيها، فلا بأس و لاحول ولا قوة الا بالله! الأمر جميلٌ نعم.. ففيه تدليكٌ و تدليلٌ لل” أنا” بعد أن بلغنا من منتصف العمر عتياً.

تشتغل على عملية توليد مفردات جديدة مثل: ارتقاص، يوصوص، أكنكن، اقموْمرتْ، وْهوهَة.. أو استخدام مفردات عامية في نص فصيح مثل: الجغل، وزّ عينك، حلاّسي، الزعلانة، يصطفلون، أو مفردات أجنبية مثل: (Babydoll) ، (Mug) ، (Fuseaux) ، فهل تعتقد أن جمالية اللغة تأتي من هذا الفعل البسيط والمعقد في الآن نفسه، أم ماذا؟

حسنٌ قولك هذا الفعل البسيط و المعقد في آن، بلى.. أرى في الأمر جمالية معينة، أيضاً إن أتى دون تصنع. فيما أكتب، أقوم أحياناً بترويض ألفاظ برّية، و جعلها أليفة ترعى ما بين جاراتها، أو أفصحن العامية بمعنى استعمالها محركةً آن لا أرى لها في الفصحى بديلاً. مثلاً، هل لكلمة “زعلانة” مرادف تماماً بالفصحى؟ كلا. أيضا كلمة “يصطفل”، أو” ينفعط” أو “تُقرْوش” إلخ. و هنا أتذكر مولانا “الجاحظ” في دعوته إلى اقتباس تعابير الأعرابي لأنها أدلّ على الواقع من تعابير اللغويين. أما المفردات الأجنبية فلأن لا مرادف لها بلغتنا، وكتابتها بالأحرف العربية يأتي مضحكاً. (Babydoll) من غير الممكن استعمال “غلالة” مكانها لأنها شيء آخر. (Mug) هو غير الكوب.. إلخ. هذا لا ينتقص البتة من احترامي و حبي للغتنا العربية الجميلة. عندما أتجاوز فأنا أفعل من داخل، و ليس من خارج، وعن معرفة وليس عن جهل. لغتنا هويتنا أولا و آخراً.

كتبت قصيدة التفعيلة و قصيدة الوزن، أما اليوم في ديوانيك الجديدين، فيبدو أنك قد حسمت خيارك الشكلي لصالح قصيدة النثر. لماذا؟

في دواويني السابقة جمعت بين قصيدتيْ الوزن و النثر لكن بروح شعرية واحدة. الوزن كتبته بلغة شعرية حديثة، حتى أني لم أقرب القوافي العجوز والمحدودبة، بل قاربتُ جديدةً ونضرة، كما كتبتََ فيَّ أنتَ حينها. صحيح ديواناي الجديدان لم يحتويا الوزن، لكنه ليس حسماً لا عودة عنه لخياري الشكلي. هي الحالة تكتب حالها في تكامل حار بين الشكل والمضمون. و هو المعنى يتخذ المبنى الذي يلائمه. ليس هذا بتنظير اعتباطي، فأنا أعيش ما أكتب حقيقةً، و من يكتب مثلى بأشكال شعرية عدة، على قلة ذلك بين مجايليّ، يعرف ما أعني. من خلال المراس، لست لأرى الوزن شرطاً مسْبقاً بل إمكانية مثل غيرها لا أكثر. و لا أعتبر قصيدة النثر ( مع عدم استساغتي لهذه التسمية ) هي القصيدة ، فيما قصيدة الوزن ديناصوراً. فبذلك نكون بصدد “عمودية شعرية” أخرى. المشكلة تكمن في الشعراء الذين يكتبون الموزون بطريقة تقليدية و لغة شعرية بائدة، أو يكتبون “الشعر المُرسَل” بلغة النثر البارد و المسطح. أنا، و كيفما كتبتُ، أبقى إبن الأصول و أفخر بذلك. و أذكر كيف كيّعتُ أستاذ العربية “جورج صرّوع” في صف البريفيه بمدرسة “الآي سي” عند بدء تعليمنا “النظم” على البحور، آنما أطلعته على بضعة قصائد صغيرة لي سابقة لذلك التعليم، دون أخطاء عروضية تُذكر، و أثرتُ إعجابه حينما استعملتُ البحر الطويل للغزل على قلة الأمر، كون هذا البحر أصلح للفخر والحماسة. و لوفرة البحر الوافر في قصائدي، أطلق عليّ لقب “ملك الوافر”، و لعل ذلك كان تيمناً مني بالشطر الجميل للشاعر سعيد عقل (و/أو جورج شكور) في تعليم هذا البحر: جمالك وافرٌ و فمي قليلُ. و أذكر أيضاً أني مرة، أقرأت أستاذي قصيدة شبه صوفية.. (أنا الذي صوفَتي حمرا) فما كان منه الا أن قال لي بانشراح مازحاً: أنى لك ذلك أيها “القريع”! هل تعرف أن القصيدة على البحر المديد و هو من الأصعب و الأندر استعمالا! غيرأنه، بعد أن غدوتُ شاعرا “رسميا”، لم يكن ليعترف بشعري الخارج عن “القانون” أي الوزن. وآخر مرة التقيته منذ عقدين، سألني: هل لا زلتَ “تنْظُم” ؟ فأجبته، شاداً ظهري بديوانين منشورين، أني لا أنظم، بل أكتب الشعر، و أردفتُ “النظم علمٌ و الشعر فن”! فكان نصيبى منه ضحكة استهزاء مجلجلةً و.. “سحسوحاً” على البحر الخفبف..

بعد إصدار خمسة دواوين، هل من جدوى؟

للأسف، ليس من جدوى سوى محدودة و شخصية. نحن نكتب لكي نطرح عنا قلقنا على ما عبر “همنغواي”. و نكتب لأننا لا نستطيع سوى أن نكتب. لأنفسنا أولا و ثانياً و عاشراً، و بعدها لقلة من المثقفين والمتتبعين الجديين و المتذوقين، و.. لبعضنا البعض، نحن الشعراء الذين بأغلبيتهم ما زالوا مفتونين وهْماً بلقب “شاعر”، مؤمنين، مرَضيّاً، أن واحدَهم إلى منزلة الإله أو النبي أو القديس أقرب! شعراء كثيرون جداً بشعر قليل جداً. أما القارئ الذي من المفترض أن يكمل تجربة الشاعر، فغير موجود. و لا تصدق أنه اتجه الى الرواية. النقد إن وُجد فقد تحول، مضارباً على الشعرالمبهم، إلى قصائد نقدية مطلْسمة، علماً أن النقد هو البيان و ليس التعمية. لا جدوى يا صديقي. لكن.. رغم ذلك سأظل أوافق “نيتشه”: هل سوى الفن يمكن أن ينقذنا كي لا نموت من الحقيقة؟ )

*( هذا الحوار نشر سابقا في مجلة الشراع )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى