شريعتي في ذكراه الـ 46 والمرآة الثلاثية
شريعتي في ذكراه الـ 46 والمرآة الثلاثية
د. محمد حسين بزي *
شريعتي الذي عاش 43 سنة وهو يصرخ بمظلومية هابيل، وحنجرة نوح، ولسان إبراهيم، وعزم موسى، وعذاب عيسى، وبيان محمد، وصوت علي، ودم الحسين، وغربة أبي ذر؛ مات غريباً ودفن غريباً.
وبعد 46 سنة على رحيل علي شريعتي (1933-1977) لا يزال السكوت أقوى الحالمين في أفكارنا، ولا تزال المراوحة التاريخية تعصف في أوطاننا؛ والانفصام بين القول والعمل سيّد الحضور، فيدور الوقت، وتتوالى العقود، وكأنّه لا يدور؛ ولا تتوالى! وتتعاقب المصائب من جوع وبؤس وحرمان، ويتدافع الطغيان والقمع والاستبداد، فكأنّها لا تتعاقب؛ وكأنّه لا يتدافع! وحين تثور الشعوب – لا سمح الله – وإذا ما نجحت فإنّها تأكل أصنامها التي صنعتها بعد جوع، حيث تُغيِّر الظالم ويبقى الظلم بلبوس المخلّص المرتجى حاكماً ملثَّماً، فيرتدي الظلم رداء التقوى؛ وعندها تولد أكبر فاجعة في التاريخ!
هكذا كنّا، وهكذا بقينا منذ أن غادرت المروءة رؤوس الرجال، وغابت الرحمة عن اشتغال الضمائر واشتعالها، وقمع الحوار والرأي الآخر باسم المصلحة العليا للمُستحمِر الأكبر.
7 عقود ولا يزال الأمل بين السكين وحدّها، يرسم بدماء المظلومين والمهمّشين خارطة أوطاننا وأعمارنا وثقافتنا وفكرنا وتاريخنا بمرآة ثلاثية الوجوه:
الوجه الأول: بلعم بن باعوراء الأب المؤسّس للاستحمار، خاصة الاستحمار الديني.
الوجه الثاني: قارون صاحب الفكرة المؤسّسة للاستعمار بين بني البشر.
الوجه الثالث: فرعون الذي لا زال يتناسل حتى الساعة على عرش الاستبداد في كل عصر ومصر.
ما تقدم من وجوه ثلاثة هي خلاصة أفكار علي شريعتي الذي أمضى حياته وهو يحاول تهشيم تلك المرآة. شريعتي الذي عاش 43 سنة وهو يصرخ بمظلومية هابيل، وحنجرة نوح، ولسان إبراهيم، وعزم موسى، وعذاب عيسى، وبيان محمد، وصوت علي، ودم الحسين، وغربة أبي ذر؛ حتى ذبحوا ديكه قبل الفجر، وبعد أن بُحّ صوته؛ مات غريباً، ودفن غريباً في دمشق في 19 حزيران/يونيو من عام 1977.
شريعتي الذي عاش آلام المعذبين في الأرض بملح الأرض، ودمع الضمير، وجرح العنفوان، ودم الليل الساهر كي لا تشرق الشمس على ضنك الوعي وموروث الخرافة “المقدسة” التي دنّست العقول والنفوس باسم الدين، ما برح شريعتي يحاسب نفسه قائلاً: “أنا سافرت إلى فرنسا على حساب شعبي الفقير حتى أتعلّم شيئاً وأعود إليهم، ولا أستطيع الآن أن أتصرّف بمفردي وبما يرضي قلبي وحاجاتي، فأنا لست حراً في التعلّم والادخار وفقاً لوضعي الروحي وموهبتي الشخصية، وإنّ هذا هو كلّ همّي؛ والذي على ضوئه استملك الرشد والوجود والغنى الثقافي واللذّة الروحية وحتى الكمال العلمي والفكري والمعنوي لأفيد شعبي. وأعلمُ أنّ كلّ الفلاسفة الكبار، والنوابغ من اللامعين، والأرواح المتعالية من الشعراء والفنانين في التاريخ، كلّهم أتوا من محيط مظلم وضيق ومنحط، ومن بين الناس الفقراء ضحايا النوم والتخلّف والظلم والمصائب، هؤلاء برزوا ولقرون غذوا الأفكار والمشاعر الإنسانية المتميزة والنبيلة باكتشافاتهم ومعجزاتهم، لكن الناس من حولهم في حياتهم ومجتمعهم ومدينتهم ظلّوا محرومين ومحتاجين، ولم ينلهم منهم أقل نصيب. وأنا شخصياً لا أستطيع تبرئة نفسي من “سؤال اللوم والذنب”، لأنّ أعلى درجات الشهادة والإيثار والإخلاص، ليست فقط في بذل الروح والمال، بل في نموها وتطوّرها الوجودي والروحي والعلمي، والوقوف لمخاطبة الناس والتحدّث معهم والاستجابة لاحتياجات حياتهم الأساسية والعادية. وإنّ أرقى وأكبر مجالات دروس البروفيسور ماسينيون لم تكن في جامعة السوربون حيث كنت أدرس، بل كانت هناك؛ تحت أعمدة مسجد للمسلمين في باريس مع مجموعة من بائعي الخضار والمفلسين من الجزائريين العرب الذين نسوا لغتهم ودينهم في أحضان المستعمر الفرنسي، رأيت ماسينيون جالساً معهم، ويعلّمهم سورة الفاتحة وسور أخرى من القرآن الكريم.”**
باختصار، وفي ذكرى شريعتي، وكي لا أحسب على الأمّة الصوتية المُجْتَرة التي ضيّعت فلسطين بعد أن حرّرتها من وعي الناس، أقول: “هذا ماسينيون المستشرق النبيل المسؤول، وذاك شريعتي المفكر الثائر المضحي، ونحن الأمّة التي كانت ولا تزال -إلّا ما رحم ربّي- تجتر القيل والقال، وكان أبي.. وعشيرتي وحسبي ونسبي.. وتحيا على أمجاد غرناطة العروس النائمة تحت ظلّ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ
مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مِنْ دَمِي
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُوفِ لأَنَّهَا
لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّمِ
وبقينا نحفظها كأسمائنا، لكنّنا تناسينا الجواهري الذي شرَّح حالنا، ممزِّقاً السكون والسكوت قبل أكثر من نصف قرن قائلاً:
نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي
حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ
نامي فإنْ لم تشبَعِي
مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ
نامي على زُبَدِ الوعود
يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي إلى يَوْمِ النشورِ
ويومَ يُؤْذَنُ بالقِيَامِ
نامي فقد غنَّى ”إلهُ
الحَرْبِ” ألْحَانَ السَّلامِ
والنورُ لَنْ “يُعْمِي” جُفوناً
قد جُبِلْنَ على الظلامِ
نامي وسيري في منامِكِ
ما استطعتِ إلى الأمامِ
نامي على تلك العِظَاتِ
الغُرِّ من ذاك الإمامِ
يُوصِيكِ أن لا تطعمي
من مالِ رَبِّكِ في حُطَامِ
يُوصِيكِ أنْ تَدَعي المباهِجَ
واللذائذَ لِلئامِ
وتُعَوِّضِي عن كلِّ ذلكَ
بالسجودِ وبالقيامِ
نامي تُرِيحِي الحاكمينَ
من ﭐشتباكٍ والتحَامِ
إنَّ التيقظَ لو علمتِ
طليعةُ الموتِ الزؤامِ
والوَعْيُ سَيْفٌ يُبْتَلَى
يومَ التَّقَارُعِ ﺑﭑنْثِلامِ.