أدب وفن

من الدَّلالات الثَّقافيَّة لفاعليَة المترجمين العرب من اللُّغة الروسية

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

        التَّرْجَمَة فِعْلٌ حضاريٌّ سام. يقوم الوجه الحضاريُّ فيهِ على ما تُؤَمِّنه التَّرْجَمَة من إمكانيات للدُّخول إلى أَوْجُهٍ غير معروفة من حضارة الآخر، والإطلاع على ما فيها من أبعاد ومفاهيم وقضايا ثقافيَّة ومعيشيَّة. وينهضُ السُّمو في التَّرْجَمَة، عبر ما تعنيه من اعتراف بالآخر، وبما قدَّمه هذا الآخر لمسيرة الإنسانيَّة، وبما يمكن أن يُؤمل من التَّفاعل مع عَطاءاته هذه لتقديم أمور أخرى للعيش الإنساني وثقافة هذا العيش.

        فالتَّرْجَمَة، بهذا، اعتراف واضح وأكيد بالآخر؛ وهي، بهذا المعنى سَعْيٌ إلى عَصْرَنَةٍ ما للحياة، عبر التَّفاعل مع الاخر، حتَّى ليُمكن القَول، تالياً، إنها نقطة تلاقٍ تَصِلُ بين أطراف التَّجارب الإنسانيَّة على اختلاف أمكنتها وأزمنتها وناسها، وأحد العوامل المؤثرة في فاعليَّة التَّلاقي الإنساني العام.

        ولا تكون التَّرْجَمَة إلاَّ بناء على عدد من العوامل الفاعلة التي منها المصلحة أو الغَلَبَة. يتشكَّل عامل المصلحة في احتياج أحد طرفي التَّرْجَمَة إلى ما عند الآخر؛ وسعيه الاختياري، من ثَمَّ، للوصول إليه من خلال نقله مُتَرْجَما. أمَّا عامل الغَلَبَة فيتمثَّل في تفوُّق ما لأحد طرفي التَّرْجَمَة على الآخر، وإضطرار الأضعف، بينهما، إلى الاقتداء بالأقوى والأخذ عنه.

        لعلَّ نظرة في تاريخ التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة تشير إلى أن هذه الخطوة الحضاريَّة بين الثقافتين العَرَبِيَّة والرُّوسِيَّة قامت بناء على عاملين أحدهما يمكن أن يقال عنه “الرَّغبة الثَّقافية”، وثانيهما يمكن أن يشار إليه بـ”المصلحة العمليَّة”.

محمد عيَّاد الطنطاوي

        لعلَ أوَّل من يذكره تاريخ التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة من المترجمين إثنان، أحدهما محمَّد عيَّاد الطَّنطاوي، من مصر، وثانيهما يوسف سبع، من بلاد الشَّام[1]. وفي حين عمل عيَّاد في الشَّأن الثَّقافي البحت، إذ كان مُدَرِّساً للعربيَّة في كليَّة اللُّغات الشَّرقيَّة في بطرسبورج بدأَ من سنة 1840 وحتَّى سنة 1861، كما قام بنقل بعض المؤلَّفات الرُّوسِيَّة إلى اللغة العَرَبِيَّة منها “تاريخ روسيا الصغير” لأوسترالوف؛ فإنَّ بوسف سبع يمثِّل الجانب العملي، السِّياسي أو التِّجاري، من دلالات التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، إذ كان مترجما من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة يعمل في القنصليَّة الرُّوسِيَّة في دمشق سنة 1890.

        وإذا ما كان للمرء أن يَتَتَبَّعَ حال المترجمين من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة خلال الأعوام والعقود التَّالية، لوجد أنَّ الأمر قد لا يشذُّ عن هذه القاعدة على الإطلاق؛ قاعدة البُعْدِ “الثَّقافي” وقاعدة المصلحة “العمليَّة”. ومن الطَّبيعي، كذلك، أن يتفاعل الجانب “الثَّقافي” مع الجانب “العملي” السِّياسي في هذا المجال؛ فتأتي التَّرجمات لتخدم الجانبين في آن معا، الأمر الذي يقودُ إلى  مزاوجة بين ما هو “ثقافي” وما هو “عملي سياسي”، وهي مزاوجةٌ  تَحْمِلُ سِمَةَ اختيارٍ واضح لنزعات وتوجُّهات معيَّنة في مجال العيش الإنساني.

        كان انتصار التَّوجُّه الإشتراكي الشُّيوعي في روسيا، عبر وصول البولشفيَّة إلى السُّلطة وتوليها مقاليد العيش على مختلف مستوياته سنة 1917، وحماس مجموعات من مثقفي العالم العربي وسياسييه تجاهها، فضلاً عن رغبة بعض أصحاب المصالح في التعامل الإيجابي معها، من الأمور التي ساهمت إلى حد كبير في إفساح المجال لازدهارٍ ما لحركة التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة. ومن المعلوم أن تجربة الحزب الشيوعي في روسيا كانت مدار إلهام أو “نَمْذَجَة” لبعض الأحزاب الشُّيوعيَّة التي نهضت في العالم العربي بُعَيْدَ انتهاء الحكم العثماني فيه؛ ثمَّ برزت، بشكل خاص، في العقود التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانيَّة. وفي هذه المرحلة ظهرت عدة مُتَرْجَماتٍ من الكِتاباتِ الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة على يد أفراد من العرب، مثل سامي الدروبي[2]ونجاتي صدقي[3]،  وعبد المعين الملوحي[4]، متعاطفين مع مضامين هذه الكتابات وتوجهاتها؛ لكن معظم هذه الجهود لم تتحوَّل إلى المستوى المؤسساتي في تلك المرحلة، فظلت ضمن المبادرة الفرديَّة أو السَّعي الذي لا يخضع إلى تركيبة مؤسساتيَّة واضحة. ولا بد من الإشارة في هذا المجال، إلى أن معظم المترجمين كانوا، في هذه المرحلة، من العرب الذين اهتمُّوا بالرُّوسِيَّة ونقلوا ما نقلوه منها إلى العَرَبِيَّة. والملاحظة الأخرى في هذا المجال، أن هؤلاء المترجمين كانوا في مُعظمهم من سوريا ولبنان وفلسطين؛ ولعل السبَّب في هذا يعود إلى الزَّخم العقائدي والسياسي الذي كانت تعيشه الأحزاب الشُّيوعيَّة والاشتراكيَّة وذات الطبيعة اليساريَّة في هذه البلدان.

        كان لـ”نكبة فلسطين”، سنة 1948، وما تَبِعها من قِيام انقلاباتٍ ضِدَّ بعض أنظمة الحكم العربي في تلك المرحلة، وتشجيعٍ للانخراط الشَّعبي المباشر في الشأن السياسي العام في مناطق عربيَّة مختلفة، وما رافق كل هذا من ازديادٍ لحملات الحرب الباردة بين جباري العالم في تلك المرحلة -الإتِّحاد السُّوفياتي والولايات المتحدَّة الأميركيَّة-، ما شجَّع على مزيدٍ من ارتباطِ بعض المفكرين والمثقفين العرب، ناهيك ببعض أهلِ الحُكْمِ في العالم العربي، مع الإتِّحاد السُّوفياتي. وكان من نتائج هذا الأمر أن شجَّعت هذه العوامل على ازدياد أوار التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، بل إن كثيرا من دور النشر العَرَبِيَّة، ذات الميول العقائديَّة المتقاربة مع ميول الحزب الشيوعي في الإتِّحاد السُّوفياتي أو الأحزاب العَرَبِيَّة المحليَّة ذات التَّوجُّه الاشتراكي أو الشيوعي، شكَّلت بؤر توهُّج تنقل كثيرا من المكتوبات الفكرية والأدبية من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة.

        وإذا ما كانت الحقبة الزَّمنيَّة التي سبقت هذه المرحلة قد انمازت بجهود فرديَّة للترجمة في معظم المرَّات، فإن السنوات الممتدة من منتصف خمسينات القرن العشرين وحتَّى منتصف سبعيناته، يمكن أن توصف، بشكل عام، بأنها مرحلة الجهود المؤسساتيَّة، إذ قامت مؤسسات حكوميَّة وحزبية عربيَّة برعاية كثير من هذه النشاطات والسَّهر على توفير ما يمكن من عوامل النجاح والانتشار لها.

        يُذكر، في هذا السِّياق، أن بعضاً من كبار دور النَّشر في الإتِّحاد السُّوفياتي، مثل “دار موسكو” و”دار التقدُّم” و”دار رادوغا” و”دار ميرا“، تَخَصَّصَت في تقديم مُتَرْجَماتٍ من الانتاج الكِتابي، الرُّوسي بشكل خاص والسُّوفياتي بشكل عام، إلى القارئ العربي. ومن جهة أخرى، فإن دوراً كثيرة في العالم العربي ذات تنسيقٍ ما مع الفكر العقائدي الاشتراكي أو الشيوعي، ليست “دار الفارابي” في بيروت إلاَّ نموذجا طيباً عنها، كانت تُخَصِّص حيِّزاً كبيراً من منشوراتها لصالح المترجمات العَرَبِيَّة للكتابات الأدبيَّة والفكريَّة والعلميَّة والعسكريَّة الرُّوسِيَّة أو السُّوفياتية.

        المُلاحظ، ههنا، أن كثيراً من المترجمين تابعوا دراستهم الأكاديميَّة والمعرفيَّة في الإتِّحاد السُّوفياتي، الأمر الذي ساعدهم على تعرُّفٍ عمليٍّ على الثقافة واللغة الروسيتين. وكان أن لَعِبَ المترجمون العرب من مصر دوراً ناشطا وأساسيَّاً في هذه المرحلة، فيما تكثَّفَت جهود المترجمين من لبنان وسوريا وفلسطين فضلاً عن العراق. ويمكن للمرء أن يذكر من مترجمي هذه المرحلة، إضافة لمن استمرَّ في العمل في هذا القطاع من مترجمي المرحلة السَّابقة، فؤاد المرعي[5] ونزار العيون السود[6] ويوسف حلاَّق[7] وعَوَض شَعْبان[8].

        مع تغيُّر الأحوال العقائديَّة والسياسيَّة، إبَّان العقد الأخير من القرن العشرين، جرَّاء ما يُعْرَف بـ”سقوط جدار برلين” سنة 1989، وتفكُّك الارتباط بين جمهوريات الإتِّحاد السُّوفياتي، والدُّخول في تجربة سياسة القطب العالمي الواحد، والتَّأثُّر بكثير من مقولات العَوْلَمَة في أبعادها السياسيَّة، فإنَّ التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة تحوَّلت إلى منحىً آخر غير المنحى المؤسساتي الذي كانت فيه في المرحلة السَّابقة. دخلت التَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، في هذه المرحلة، دُنيا المغامرة الفرديَّة المحكومة بالمزاج والمصلحة الشخصيين، كما دخلت مدارات العرض والطَّلب التجاريين، فضلاً عن تعرُّضِها المباشر لعوامل كثيرة من ضغوطات العولمة الثَّقافية والسياسية بأبعادها الرَّأسماليَّة وتوجهات هذه الأبعاد. ولعله من المؤسف أن يشير المرء، في هذا السِّياق، إلى ما ذُكِرَ في بعض الصُّحف مؤخَّراً من أن “مؤسسات التَّرْجَمَة والنشر السُّوفياتية، مثل دار التقدُّم ودار رادوغا وغيرهما، تحوَّلت إلى مؤسسات تجاريَّة لبيع المأكولات والملابس الداخليَّة”.[9]

        أمَّا المترجمون العرب في هذه المرحلة، فمعظمهم مِمَّن بَقِيَ يعمل في هذا المضمار من مترجمي المرحلة السَّابقة، فضلاً عن جماعات جديدة شابَّة أصرَّت على دخول هذا الميدان إمَّا بدافع أكاديمي أو إصراراً على شد أزر رؤية ثقافيَّة وحضاريَّة يؤمن بها هؤلاء المترجمون. ويذكر في هذا السِّياق مكارم الغمري[10] وأشرف الصبَّاغ[11].

        يُمكِن التَّوَقُّف، ههنا، عند خلاصتين أساسيتين:

  • المترجمون العرب أوَّل من باشر الاهتمام بالتَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، وهم من تابع هذا الاهتمام عبر نشاطاتهم؛ أكان ذلك من خلال دُور النَّشر العَرَبِيَّة أو تلك الَّتي تقع خارج العالم العربي.
  • انطلق الاهتمام بالتَّرْجَمَة من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة لغاية ثقافيَّة؛ واستمرَّ مزاوجاً بين الثقافة والبُعد العملي السياسي. وما لبث العامل السياسي أن أصبح الأقوى في تأثيره على مسارات هذه التَّرْجَمَة، بسبب  اشتداد قوة أنصار الإتِّحاد السوفياتي في العالم العربي، وعنف مواجهته للحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأميركيَّة. ثمَّ انكفأت التَّرْجَمَة إلى حد كبير بسقوط الإتِّحاد السوفياتي، وصعود نجم العولمة السياسية بوجود الولايات المتحدة الأميركيَّة على قمة الهرم السياسي العالمي.

        لعلَّهُ من المُمْكِن الاستنتاج من كل ما سبق، أن المترجمين العرب سبقوا زملاءهم الروس في مجال الاهتمام من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة. وأن هذا الاهتمام أتى تأكيدا من العرب على رغبة ذاتيَّة أو عقائديَّة واضحة في التَّعرُّف على مجالات من الفكر والثقافة الروسيين؛ كما أتَّى بعيدا عن أي تأثير لأي غَلَبَة من أي نوع كانت.

        المقولة التَّأسيسيَّة الأولى التي يمكن استنتاجها ههنا:

  • جاء عمل المترجمين العرب، من الرُّوسِيَّة إلى العَرَبِيَّة، ليشهد، منذ النصف الثاني من القرن التَّاسع عشر وحتَّى اليوم، على عدة أمور منها:
    • الاعتراف العربي بالآخر الرُّوسي.
    • أساسيَّة التَّفاعل الفكري والثَّقافي بين العرب والرّوس.

****

[1]– يراجع:

  • حول محمَّد عيَّاد الطنطاوي:
    • أغناطيوس كراتشكوفسكي، حياة الشيخ محمد عيَّاد الطنطاوي، نشر باللغة الرُّوسِيَّة سنة 1921، ونقله إلى العَرَبِيَّة ونَشَرَهُ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر، سنة 1964.
  • حول يوسف سبع:
    • Philip Khoury, Urban Notables and Arab Nationalism, The Politics of Damascus: 1860-1890, Cambridge Press, 1983.

[2]–  سوري، من مترجماته في هذه المرحلة:

  • بطل من زماننا – ليرمنتوف.
  • الأعمال الكاملة – دوستوفسكي.
  • المدارس الاجتماعيَّة – سوركين.

[3]– فلسطيني. من مترجماته في هذه المرحلة:.

  • المختار من القصص الروسي.
  • دراسة عن بوشكين.
  • دراسة عن تشيخوف.
  • دراسة عن مكسيم غوركي.

[4]–  سوري، من مترجماته في هذه المرحلة:

  • ذكريات حياتي الأدبية- غوركي.
  • المتشردون- غوركي

[5]– سوري، من ترجماته في هذه المرحلة:

  • أرض الأم – إيتماتوف.
  • تشابايف – فورمانوف.

[6]– سوري، ومن ترجماته في هذه المرحلة:

  • ساعة الاختيار أو مذكرات الجنرال بونش برويفيتش.
  • دراسات في أدب دوستويفسكي.

[7]– سوري، من مترجماته في هذه المرحلة:

  • قصص عن لينين – لونا تشارسكي.
  • الكحول والأولاد – روسليس.
  • في الأدب والفن – لينين.
  • نصوص مختارة – بيلينسكي.
  • المبارزة – كوبرين.
  • نقود لماريا – رسبوتين.
  • المعلم ومرغريتا – بولغاكوف.

[8]– لبناني، من مترجماته:

  • السيدة والكلب – تشيخوف.
  • المبارزة – تشيخوف.
  • تاراس بولبا – غوغول.

[9]– ينظر في هذا المجال:

  • حديث الدكتور أشرف الصباغ، وهوروائي مصري مقيم في روسيا، جريدة الرياض اليوم، المملكة العَرَبِيَّة السعوديَّة، العدد 12656، الصادر يوم الاثنين الواقع فيه التاسع من ذي الحجة سنة 1423 هجرية/10 فبراير / شباط 2003

[10]– مصريَّة، من مترجماتها:

  • الحرب والسلم- بولجاكوف.
  • المحاكمة وزواج صوري- غويغتن.
  • أحياءإلى الأبد- روزوف.

[11]– مصري، من مترجماته:

  • المهلة الأخيرة – رسبوتين
  • الأدب الروسي في السنوات العشر الأخيرة.

*نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى