أدب وفن

خَواطِر في النَّقد: مَلَكَة الدَّهشة(الحلقة الـ 4)

الدكتور وجيه فانوس

لطالما قالَ النَّاسُ أنْ «لا جديدَ تحتَ الشَّمسِ»؛ فكلُّ ما يَحصلُ الآن قد حصلَ مثيل، أو مشابه، له من قبل: الحُبُّ قديم؛ وكذلك الكره؛ اليُتم والقهر قديمان؛ والفرحُ، كما التَّرح والانطلاق، قديمٌ في قديمٍ في قديم! وحَدِّث، ولا حَرَجَ، عن الغَيرةِ، واللُّؤمِ والتَّضحيةِ والوفاءِ والخِيانةِ، وعن كلِّ ما قد يخطرُ على البالِ مِن عواطف وأحاسيس وانفعالاتٍ وأحلام؛ بلْ عن كلِّ ما يُمكن أنْ يشكِّل مادَّةً للكتابةِ الأدبيَّة. ولا يَنْسَ المرءُ، ههنا، أنَّ الأزهارَ قديمةٌ أيضاً، وكذلك الأَطيارَ؛ ومِن هذا القبيلِ، الحقولُ والجبالُ والوديانُ، ولحظاتُ شروقِ الشَّمس وغروبها، وكلّ ما يَرِدُ عنه كلاماً في الشِّعر أو في النَّثرِ. كلُّ هذا، قديمٌ في قديمٍ في قديمٍ، ولا جدیدَ تحتَ الشَّمسِ!
منذُ أنْ وَعى النَّاسُ أنْ ثمَّة أَدباً عَرَبِيَّاً، وأنَّه يُحْفظُ ويُدَوَّنُ، صَدَحَ الشَّاعِرُ العربيُّ، عنترة العبسي، بقولته المشهورة: «هل غادرَ الشُّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ»؛ أي هَلْ تركَ الشُّعراءُ، الذين سبقوهُ في الزَّمَنِ، وَلَوْ بَعْضاً مِنْ فُتات التَّمرِ، «تَمْرَ الشِّعرِ»، لِيبقى لهُ مِنهُ ما يرويهِ أو يقوله؛ أيْ لِيَبْقى لِمُحبِّ «عبلةَ»، الغارقِ في العِشقِ والهيام، ولفارس «بني عبسٍ» الجَسورِ والمِقدامِ، وَلَوْ شَيْئاً مِن جديد! وهذا «امرؤُ القَيْسِ»، وهُوَ مَن هُوَ قيمةً ومركزاً ورَفْعاً للواءِ الشِّعرِ عند العربِ، يذكرُ، فيما يذكرُهُ، أنْ «قِفا نَبْكِ الدِّيارَ كَمَا بَكی ابنُ خُذامٍ»؛ و«ابنُ خذامٍ»، هذا، شاعرٌ سبقَ الشَّاعرَالضِّلِّيلَ، فَبَكی واسْتَبْكی، وذَكَرَ وتَذَكَّرَ؛ فَلَمْ يَجِد «امرؤُ القَيْس»، إذْ أرادَ نظمَ الشِّعرِ في العصرِ الجاهليِّ، سوى أنْ يَنْهَجَ على خُطى مَن سَبَقه مِن الشُّعراءِ، وأنْ يحذو حَذْوَ الشَّاعرَ الذي تقدَّمه في الزَّمنِ، لِيَنْسُج في بحورِ الشِّعرِ وقوافيهِ ومعانيهِ على منواله.
منذُ أيَّام «امرىء القيس»، ومنذُ صولاتِ «عنترة العبسي» وجولاتهِ، وباعترافاتِهِما المباشِرَةِ، ولا جَديدَ؛ بل لا جديدَ البتَّة! ولكنْ، منذُ ذلكَ الزَّمنِ، وقَبْلَهُ، وبَعْدَهُ، والشُّعراءُ ينظمون، والأدباءُ يكتبون، والنَّاسُ يقرأون. وفي كلِّ مرَّةٍ،إذْ يواجهُ النَّاسُ فيها عَمَلاً أدبيَّاَ جيِّداً، فإنَّ كثيرين مِنهُم، يُعجبونَ بِهِ، أو هم يَسْتعذبونه، ويحسُّونَ بجديدٍ فيهِ؛ فما الحكايةُ، وما السِّرُّ؟ وكيفَ يتمكَّنُ الأديبُ الحقُّ والشَّاعرُ الحقُّ مِن الظَّفرِ بجديدٍ، في قديم ٍاعترفَ الشُّعراءُ والأدباءُ والنَّاسُ، أنْ لا جديدَ فيهِ؛ انطلاقاً مِن منطقِ أنْ لا جدیدَ تحتَ شمسِ الوجود؟!
يزورُ المرءُ بيتاً أو مدينةً، لأوَّلِ مرُّةٍ، فإذا بهِ يُدْهَشُ لِما يجدهُ هناكَ مِن جديدٍ بالنِّسبة إليه؛ وهذا الجَديدُ، ليسَ سوى قديم بالنِّسبةِ إلى مَن سبقهُ في الزِّيارةِ أو الإقامةِ. ويتوقَّفُ المرءُ عند أمورٍ قد يعتقدُها أهلُ ذلك البيتِ أو تلك المدينةِ، مِن المسلَّماتِ التي لا يتوقَّعونَ وقوفاً عندها! وعندما يُعَبِّرُ، هذا المرءُ، عن دهشتِهِ مِن هذهِ الأمورِ، ويرى فيها ما لَمْ يَعُدْ يراهُ أهلُها فيها، أو ما لَمْ يَعُدْ أهلُها بقادرينَ على اكتِشافِهِ فيها مِن زوايا ومعانٍ ودلالاتٍ، يُصبحُ هذا المرءُ أمامَ بدايةِ التَّعبير عنِ الجديدِ؛ وإنْ وُفِّقَ هذا المرءُ إلى تعبيرهِ بأسلوبٍ فنيٍّ حسَّاسٍ، فإنَّهُ يكونُ قد وَلَجَ عالَمَ الأدبِ ودخلَ حلبةَ البحثِ عنِ الإبداعِ. هذا هو الفرقُ البسيطُ-العميقُ بينَ الإنسانِ العاديِّ والإنسانِ المُبْدِعِ. الموضوعاتُ قديمةٌ؛ أمَّا النَّظرةُ إليها، فقابِلَةٌ للقِدَمِ قبولها للجِدَّةِ؛ والجِدَّةُ وليدةُ القدرةِ على الدَّهْشَةِ.
أنْ يظلَّ الإنسانُ قادراً على الاندهاشِ؛ فهذا معناهُ، أنَّ هذا الإنسانَ ما انْفَكَّ قادراً على توليدِ الجديدِ، بلْ ما بَرَحَ قادراً على السَّيرِ نَحْوَ الإبداعِ والخَوْضِ في غِمارِهِ. يُمكنُ المُلاحَظَةُ، تالِيَاً، إنَّ الدَّهشةَ، عادةً، مَلَكَةٌ ينمازُ بها الأطفالُ؛ فهي طريقةُ تعبيرِهِم عن اكتشافاتِهِم لعوالم في الدُّنيا، لَمْ يَعرِفوها مِن قبل. لكن إذا ما استطاعَ الإنسانُ المحافظةَ على حَيَوِيَّةِ هذهِ المَلَكَةِ في ذاتِهِ، حتَّى بعدَ أنْ يكونَ قدْ تعدَّى مرحلةَ الطُّفولةِ، وظلَّ قادراً على رؤيةِ جديدٍ ما، في كلِّ قديمٍ عرفهُ؛ فهنا سِرٌّ مِنْ أسرارِ المُمارسة الأدبيَّة الجيِّدة.
القابليَّةُ للاندهاشِ، أو لِعَيْشِ الدَّهْشَةَ، هي ما يميّز، في مجالاتٍ كثيرةٍ، الأديب المُبدِعَ مِن سواه! إنَّه يَسْتَوْلِدَ الجديدَ؛ ثُمَّ يعبِّر، بِلُغَتِهِ الأدبيَّة، عن استيلادِهِ هذا. هكذا نَظَرَ النَّاقدُ والشَّاعِرُ الإنكليزيُ «كولِرِدْج» (Coleridge) في العمليَّةِ الأدبيَّة؛ وهكذا يُثبِتُ النَّظرُ الجِديُّ إلى الأعمالِ الأدبيَّةِ صِحَّةَ ما ذهبَ إليهِ هذا النَّاقِدُ والشَّاعِرُ.
تتصلُ مَلَكَةُ الدَّهشةِ، اتِّصالاً مباشراً، ووفِاقاً لِما ذهبَ إليهِ «كولردج»، بذاتيَّةِ الأديبِ وبقدراتِهِ الخاصَّةِ على التَّجديد والتَّجدُّد؛ وكذلكَ، على قابليَّتهِ لأنْ يعيشَ بَكارَةَ الاكتشافِ في كلِّ آنٍ يُمارِسُ فيهِ العَيْشَ والانفعالَ. وهذهِ المقدرةُ على الشُّعورِ بالدَّهشَةِ والإحْساسِ بِها، وعلى مُمارَسَةِ الانبهارِ أمامَ الأشياءِ والأمورِ؛ هي، حتماً، غير ذلكَ الشُّعورِ القائمِ على البَلاهَةِ تجاهَ الأمورِ والأشياء، أو على الجَهْلِ الأَعْمى بِها. الدَّهْشَةُ، ههنا، تَعني تلكَ القدرة على استمرارِ اكتشافِ علاقاتٍ جديدةٍ، وعلى استطاعَةِ القيامِ ببناءِ روابط لَمْ تَكُن في البال مِن قَبْلُ، بَيْنَ الأشياء والأمورِ التي يتعاملُ معها ومِن خلالِها الإنسانُ المُبْدِعُ. هنا سِرٌّ كبيرٌّ مِن أسرارِ العبقريَّةِ الأدبيَّةِ، وهنا مَعينٌ تَنْهَلُ منهُ كُلُّ الأعمالِ الأدبيَّةِ الخالدِةِ بإبداعاتِها. فلطالما لَمَحَ المتحاربونَ لمعانَ السُّيوفِ وبَريقِها إبَّانَ المعاركِ الضَّاريةِ، ولطالما رأى العُشُاقُ افْتِرارَ ثَغْرِ الحبيبةِ عن ابتساماتٍ مُشْرِقَةٍ؛ لكنَّ واحداً فقط، هو «عنترة بن شدَّاد»، الذي استطاعَ أنْ يَرْبُطَ بينَ «التماعِ السُّيوفِ» و«بريقِ ثَغْرِ الحبيبةِ الباسِم»؛ فأنشدَ قائلاً «وَدَدْتُ تَقْبيلَ السُّيوفِ لِأنَّها لَمَعَتْ كَبارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ». وكُلُّ النَّاسِ فقدوا أحبَّةً لهم، وكُثُرٌ هُمُ العُشَّاقُ الذينَ ذَرفوا عَبراتِ الأسى واللَّوعةِ عندَ ضريحِ الحبيبةِ؛ غَيْرَ أنَّ واحداً، وواحداً فَقَطْ، استطاعَ أنْ يَجِدَ رابِطَةً جديدةً بينَ قَبْرِ الحبيبةِ المُظْلِمِ العَفِنِ، وبينَ الرَّوضةِ الغنَّاءِ العَطِرَةِ؛ إنَّهُ «بدر شاكِر السَّيَّاب»، الذي تَحَوَّلَ معهُ قبرُ حبيبتِهِ «وفيقة» إلى حديقة!
لوفيقة
في ظلام العالم السفليّ حقل
فيه مما يزرع الموتى حديقة
يلتقي في جوها صبح وليل
وخيال وحقيقة
تنعكس الأنهار فيها وهي تجري
مثقلات بالظلال
كسلال من ثمار كدوالٍ
سرّحت دون حبال
كل نهر
شرفة خضراء في دنيا سحيقة
هكذا حقَّق «عنترة» و«السَّيَّاب»، صورةً أدبيَّةً مُدْهِشَةً؛ أَدْخَلَتْ أَدَبَهُما هذا دُنيا الحياةِ المُخَلَّدةِ، دُنيا ما بعد الكلماتِ وقَوْلِها!
لعلَّ هذهِ القدرة على امتلاكِ الإحساسِ بالدَّهشةِ، وعلى التَّعاملِ معَ الواقعِ القديمِ مِن خِلالِها، هي ما أسماهُ النُّقَّادُ، والنَّاسُ مِنْ بَعْدِهِم، بالقدرةِ على استخدامِ الصُّورِ الخياليَّةِ، أو التَّخيُّلِ، أو إِعْمالِ المُخَيّلةِ في العمليَّةِ الأدبيَّةِ. ولعلَّ هذا الأمر صحيحٌ في ظاهرِهِ، لكن ثمَّةَ فرقاً كبيراً بينَ خيالٍ جافٍّ مَیْتٍ، يَرْبُطُ بينَ ما هو منفكٌّ أصلاً عن بعضِهِ، وغيرَ قادرٍ على الالتحامِ أو البِناءِ؛ أو هو يَسْعى إلى جَمْع ٍلِمُتنافِرٍ لا يَسْتَقِيمُ مع جَمْعِهِ مَعنیً أو صورة. هذا هَذَيانٌ؛ إنَّهُ ليسَ بإبداعٍ أدبيٍّ، ولا يمكنُ لهُ أنْ يكون؛ بل هو مَوْتُ الخيالِ وجفافُهُ وعُقمه. ولعلَّ في هذا مأساةُ كثيرٍ مِن مُدَّعي الشِّعر والأدب؛ بلْ مأساةُ الكتابةِ، التي يطمحُ أصحابُها، إلى إبداعٍ وتجديدٍ مِن دونِ أنْ تكونَ لديهم مَلَكَةُ الدَّهْشَةِ هذه. فهؤلاء ما برحوا، منذُ أنْ كانوا، يَرْسُفونَ في حدودِ التَّقليدِ وغَياهِبِهِ، يقبعونَ في مَحاقاتِ التَّحجُّر الميتة.
عملُ الخيالِ، في الفِعْلِ الأدبيِّ، ممارسةٌ يرتبطُ فيها الوَعْيُّ الخلاَّق ُبالحَدْسِ الإشراقيِّ وبالقُدرةِ المميَّزةِ في كلِّ إنسانٍ يسعى إلى جديدٍ. إنَّهُ عَمَلٌ يرتبطُ، أوَّلاً وأخيراً، بالقدرةِ على امتلاكِ «مَلَكَةِ الدَّهْشَةِ»، وبالقدرةِ على حُسْنِ استخْدامِها؛ هذه المَلَكَةُ، التي لا بُدَّ لها مِنْ عيشِ بَكُورَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لِفَهْمِ الوُجودِ.
عَمَلِيَّةٌ صَعْبَةٌ، مُعَقَّدةٌ ومُتَشابِكَةٌ؛ بَيْدَ أنَّها مِنْ صُلبِ الفِعلِ الأدبيِّ، ومِن الجَوْهَرِ المُصَفَّى لِحياةِ الفنِّ واستمرارِهِ! 
إنَّها، حَيَوِيَّةُ الأَدَبِ.
—————
* دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى