منتديات

يهود لبنان: انتماءات متعددة

الدكتور علي عجمي

يهود لبنان: انتماءات متعددة

ونحن صغار، كنا نسمع اسم منطقة في بيروت هي وادي أبو جميل. ولكننا لم نعلم أنها حي اليهود الأكبر في لبنان، إلا بعد أن رحل اليهود منه.

يهود لبنان، طائفة انحسرت، بفعل العوامل الداخلية، والتبعات الإقليمية، والمخططات الدولية الداعمة لفكرة دولة إسرائيل.

يهود لبنان، هم الطائفة الشبحية، كما يحلو للبعض أن يسميها.

وهم طائفة من الطوائف اللبنانية الثمانية عشرة، واسمها الرسمي في السجلات اللبنانية: الطائفة الإسرائيلية.

يختلف تاريخ اليهود في لبنان عن تاريخهم في غيره من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد يكون السبب أن لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي لا يخضع لحكم إسلامي صرف.

يقول بعض المؤرخين إن القدوم الأول لليهود إلى لبنان كان سنة 1710، وأن هؤلاء كانوا جزءاً من يهود الأندلس الذين هربوا من محاكم التفتيش الإسبانية، والذين باتوا يُعرفون بالسفارديم. وقد لجؤوا إلى منطقة الشوف، وتحديداً دير القمر، ثم غادروها بشكل جزئي سنة 1860، إثر اندلاع مواجهات بين الدروز والمسيحيين.

لكن مؤرخين آخرين يعيدون تاريخ اليهود في لبنان إلى زمن أبعد من ذلك، ويعتقدون أن عائلات يهودية أتت قبل ذلك إلى لبنان قادمة من مدينة حلب. ويقول المؤرخ اللبناني ناجي زيدان أن المماليك حين استولوا على مدينة صيدا سنة 1289 كان يعيش فيها عشرون يهودياً. ويشير أيضاً إلى أن أول كنيس يهودي بني في صيدا سنة 1600. بينما يذكر الرحالة الاسباني اليهودي بنجامين دي توديلا أنه خلال رحلته من مدينة سرقسطة (ساراغوسا) في اسبانيا إلى أوروشليم ما بين سنتي 1165 و1173 كان يعيش في مدينة صيدا خمسون يهودياً. كما ذكر إحصاء أجراه نبيل خليفة للسلطات العثمانية سنة 1519 أن 19 يهودياً كانوا يعيشون في مدينة بيروت آنذاك. أما المؤرخة كريستين شولتز فتذكر في كتابها “يهود لبنان” أن طليعة اليهود جاؤوا إلى مدينة صور حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، وأن أول ذكر لوجود اليهود فيها يعود لزمن الملك سليمان. وفي سنة 1969 عثر علماء آثار في منطقة الدكرمان في صيدا على عمود قديم يعود تاريخه إلى سنة 47 قبل الميلاد ويشير إلى وجود كنيس يهودي هناك.

وبحلول سنة 1911 كانت الطائفة اليهودية قد توسعت، وتمتعت بقدر كبير من النفوذ في لبنان. بل وتقول بعض المصادر إنها لعبت دوراً في تأسيس لبنان كدولة مستقلة عن الانتداب الفرنسي. وشارك بعض أفرادها بالعمل السياسي.

وخلال فترة لبنان الكبير نُشرت صحيفتان يهوديتان في لبنان هما “العالم الإسرائيلي”، وصحيفة اقتصادية باللغة الفرنسية اسمها Le Commerce du Levant أي تجارة المشرق.

وعندما تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948، كان هناك أكثر من خمسة آلاف يهودي يعيشون في لبنان. ولكن بعد الحرب الأهلية الأولى في لبنان سنة 1958، هاجر العديد من اليهود إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

وكان لحرب لبنان الأهلية الثانية التي اندلعت سنة 1975 أثر سلبي على يهود لبنان. ففي الثمانيات من القرن الماضي اختُطِفَ إسحق ساسون، زعيم الطائفة اليهودية اللبنانية، وعدد آخر من اليهود اللبنانيين. وقد قُتِل بعضهم على يد خاطفيهم، وبقي مصير الآخرين مجهولاً. بعد ذلك غادر من تبقى من اليهود، باستثناء قلة قليلة.

لقد عاش اليهود في وادي أبو جميل ورأس بيروت بشكل أساسي، وبشكل أقل في قضاء الشوف ودير القمر وعاليه وبشامون وبحمدون وصيدا وحاصبيا وطرابلس.

من أبرز المعالم اليهودية في لبنان الكنيس اليهودي الأكبر في لبنان، والوحيد في بيروت، والذي يحمل اسم ماغين أبراهام. وقد دمّره الطيران الإسرائيلي سنة 1982، خلال اجتياح لبنان وصولاً إلى بيروت. وقد أعيد ترميمه منذ سنوات قليلة.

وهناك أكثر من كنيس وأكثر من مقبرة لليهود، ولا سيما في بيروت ودير القمر وصيدا.

وفي طرابلس في شمال لبنان، يعيش القليل من ابناء الطائفة اليهودية. وهم غير معروفين، ويمارسون عاداتهم وتقاليدَهم بسرية تامة.

أما وادي أبو جميل، الحي اليهودي في بيروت، فقد أصبح الآن مهجوراً وخالياً إلا من حوالى 30 يهودياً، معظمهم من كبار السن.

في حين كان الوسط التجاري في بيروت يضمّ عشرات المحلات التجارية ليهود لبنانيين. لكن كل أملاكهم دمرتها الحرب.

يهود لبنان كانوا جزءاً من النسيج المحلي. وقد يستغرب البعض حين نقول إن العديد من الشخصيات اليهودية اللبنانية لمع اسمها ضمن الإطار الوطني واليساري، بل ومن المناصرين للقضية الفلسطينية.

فهذا أليكو بيضا انتسب الى حركة فتح، وناصر الثورة في الكونغو.

وتلك المخرجة هايني سرور التي كانت ضمن الحركة الطالبية اليسارية اللبنانية. وذهبت الى سلطنة عمان حيث صورت فيلم “ساعة التحرير دقّت” عن ثورة ظفار الشيوعية هناك. تقول هايني سرور إن أقرباءها اليهود قاطعوها لأنها تقف ضد الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وإنها في المقابل حوربت في بيروت لأنها يهودية حيث يُتَّهم كل يهودي بأنه صهيوني. وفي إحدى مقابلاتها الصحفية ذكرت هايني أن حزب الكتائب اللبنانية أصدر عليها حكماً بالإعدام بسبب إخراجها فيلم ليلى والذئاب الذي يتناول نضالات المرأة الفلسطينية بشكل رئيسي.

والباحثة يولا بوليتي، وكانت ضمن المجموعات اليسارية والطالبية. وهي استاذة جامعية، وصاحبة بعض الأبحاث عن المرأة. وقد غادرت لبنان بعد اشتداد الحرب.

والروائي سليم تركية (أو سليم نصيب) كان ضمن المجموعات القريبة من الحزب الشيوعي اللبناني، ومن سكان وادي أبو جميل. هاجر إلى فرنسا سنة 1969. وقد عمل في الصحافة، وكتب الكثير عن القضية الفلسطينية. كما كتب رواية عن الحب الذي جمع السيدة أم كلثوم والشاعر أحمد رامي. الرواية صدرت بالفرنسية تحت عنوان “أُمّ”، وتُرجمت ونُشرت لاحقاً بالعربية تحت عنوان “كان صرحاً من خيال”.

والناقد التشكيلي والفنان المسرحي جوزف طراب، الذي كان “ماركسياً مستقلاً”، كما سمّى نفسه. وفي نهاية سنة 1967 نُظِّم في باريس مهرجان كبير حول القضية الفلسطينية، اشترك فيه فرنسيون وعرب واسرائيليون. واشترك طراب في هذا المهرجان بصفته ممثلاً للجنة فلسطين للطلاب اللبنانيين في باريس. وفي كلمة له في المهرجان، قال طراب إنه لا مشكلة يهودية في الدول العربية، وأن هذه المشكلة، إذا وجدت، فسببها قيام إسرائيل، لا الدول العربية. لقد كان طراب مندفعاً للأفكار الثورية، ومناصراً بقوة للقضية الفلسطينية.

******

غالبية يهود لبنان هجروه بعد حرب سنة 1975، لأسباب كثيرة من بينها انتماءات مستحدثة إلى بلدان مستجدة، وبالأخصّ فرنسا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. وقلة بقيت، أو عادت إلى لبنان، يتنازعها شعور بالانتماء إلى بلد ولدوا وترعرعوا وعاشوا فيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى